للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سلام الله على يحيى بن زكريا في أشد الأحوال التي تمر على الإنسان]

الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:٣٠] عالم الغيب والشهادة الذي يستوي في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، إنما قوله لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون.

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك -عليك يا سيدي يا رسول الله- صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيله حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج يا سيدي، وأمنت الخائف يا سيدي، وطمأنت الخلق يا سيدي، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين.

أما بعد: فيا أيها الأحباب؛ أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، ومع اللقاء العاشر على التوالي ما زلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، ونكرر القول بين يدي كل لقاء من لقاءات تفسيرنا لهذه السورة المباركة ونكرره ونقول: أولاً: إن عقيدتنا نحن المسلمين هي أننا نوحد الله جل وعلا، ونعلنها صريحة في كل زمان ومكان، ونقول جميعاً: لا إله إلا الله، كلمة التوحيد والإخلاص.

أما بالنسبة لتفسير الآيات فلقد توقفنا في اللقاء الماضي عند آخر مؤهل من مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام على حسب تعبير صاحب ظلال القرآن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله، قلنا: إن الله قد زود يحيى عليه السلام بمؤهلات لحمل الأمانة الكبرى والمسئولية العظمى، هذه المؤهلات هي {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:١٢ - ١٤] وانتهينا في اللقاء الماضي عند معنى كلمة (عصياً)، وشرحنا في اللقاء الماضي معنى كلمة: (لم يكن جباراً عصياً)، وبهذا نكون قد أنهينا اللقاء عن مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام، وبعد هذه الصفات الغالية التي زود الله بها يحيى يسلم الله عز وجل عليه فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:١٥].

انظروا يا أحباب! الله سبحانه وتعالى يسلم عليه في مواطن ثلاثة هي أشد ما تكون على الإنسان: يوم أن يولد، ويوم أن يموت ويوم أن يبعث حياً ليلقى الله الحي الذي لا يموت، يسلم الله عليه في هذه الأحوال الثلاثة وفي هذه المواقف الثلاثة، فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:١٥].

ذكر الإمام ابن كثير عن قتادة أن الحسن قال: التقى يحيى وعيسى عليهما السلام، فقال عيسى ليحيى: ادع الله لي فإنك أفضل مني، فقال يحيى لعيسى: بل أنت أفضل مني يا عيسى، فقال عيسى: لا يا يحيى، بل أنت أفضل مني؛ لأنني أنا الذي سلمت على نفسي فقلت: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:٣٣]، أما أنت فقد سلم الله عليك فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:١٥].