[الإخلاص والتجرد من الأهواء]
ثانياً: الإخلاص والتجرد من الأهواء، والله الذي لا إله غيره لن يقبل الله منك كلمة ولا حركة إن لم تبتغ بها وجهه، ولو ملأت الدنيا ضجيجاً.
يا أخي! سل نفسك: أنت تناقشني أمام الناس، الله عز وجل وحده يعلم بنيتك، هل تريد إحراجي؟ هل تريد النصح لي؟ هل التزمت أدب النصيحة؟ هل تريد البيان لي؟ هل تريد السمعة؟ هل تريد الشهرة؟! لو خدعتني وخدعت الخلق فلن تخادع الخالق، فتش في النية، لماذا أتيت أنت الآن إلى هذا المسجد؟ ما هي نيتك؟ هل خرجت لله أم لسبب آخر يعلمه الله؟ الإخلاص، إن ناقشت أحد إخوانك ففتش عن نيتك قبل أن تتكلم، هذا يريد الزعامة، هذا يريد الصدارة، هذا يريد الشهرة، هذا يريد المال، هذا يريد المنصب، هذا يريد الجماعة، لو صدقنا الله عز وجل ونقبنا لرأينا أن الهوى كان سبب معظم الخلافات على أرض العمل الإسلامي، الهوى ملك ظلوم غشوم جهول، يصم الآذان ويعمي الأبصار، وقد حذر الله عز وجل منه نبياً من أنبيائه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:٢٦]، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن، وهو حديث حسن، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار) أنت تجهل الأدلة، ومراتب الأدلة، ومناطات الأدلة، فلماذا تتكلم في دين رب البرية جل وعلا؟! قاض عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، يا رجل! أنت تعرف الحق، وتعرف الدليل! سبحان الله! يفتح المراجع، إذا ظهر له بين يديه في المرجع دليل يخالف قوله يخبئه؛ لأنه ليس له، عرف الحق وقضى بخلافه، والله إن هذا السبيل يمرض القلوب.
وهناك ممن يعملون بالدعوة لا وظيفة لأحدهم إلا أن يجلس ليترصد أخطاء الدعاة، هذه وظيفته! تخيل محاضرة مثل هذه فيها عشرات الآلاف من الكلمات، قد أزل في كلمة منها، يطلع ويقول: سمعت الشيخ قال كذا؟! ويدق الطبول، ويشنع لهذه الكلمة، أو لهذه الجملة أو الفقرة.
سبحان الله يا أخي! لماذا لم تأتني إن كنت صادقاً في النصيحة، والله لو صدقت الله لعلمت أنك كاذب، سامحوني! أين النصيحة أين آدابها أيها الناصح؟! يجلس عالم في مجلس علم وهو لا يدري كم جلس هذا الرجل ليعد المحاضرة بالساعات، بل بالأيام، بل والله بالأسابيع، وأمام كلمة زل فيها لبشريته، لا يخرج من هذا المجلس كله إلا بها! هذا قمة الظلم، أين الإنصاف؟! أين العدل؟! يقول ابن تيمية: من حكم على الناس بغير علم فقد خالف قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦]، ومن حكم على الناس بغير عدل فقد خالف قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨] تكلم في الناس بعلم وعدل، تكلم في المناهج بعلم وعدل، تكلم عن الشيوخ بعلم وعدل، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم العلماء إلا عالم، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم الشيوخ إلا شيخ، وأرى أنه لا ينبغي أن يجرح العلماء إلا عالم بالجرح والتعديل.
اعلم -يا أخي- وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
رحم الله الحافظ ابن عساكر، فهو قائل هذه الكلمات، فمن بركة العلم أن ننسب العلم إلى قائليه.
الإخلاص والتجرد عن الأهواء: تجرد عن الهوى، أخلص في النصيحة، ولتكن بأدب وبحكمة وبرحمة، وإن كنت صادقاً فانطلق مباشرة إلى الشيخ الذي أخطأ، وبين له الخطأ بأدب، لا تدق الطبول بزلة أو بخطأ، ورحم الله من قال: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإخلاص والتجرد من الأهواء من أعظم الآداب التي يجب أن نتأدب بها في حالة الخلاف، فإذا خالفتكم في مسألة، أو خالفتوني في مسألة من الفروع، فلا بأس، ومحل بحثنا هو عن النوع الثاني من أنواع الخلاف، خلاف الفروع أو مسائل الاجتهاد، فإذا خالفتك فيها، وأردت أن تناقشني في هذه المسألة، فناقشني بالإخلاص، وصحح النية، وأنا أصحح نيتي، أنا أريد الحق، وأنت تريد الحق، كما قال الشافعي: والله ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يجري الحق على لسانه.
وهذه قمة التجرد.
وفي نفس المكان الطيب الطاهر هذا ألقيت خطبة جمعة بعنوان: تجرد وعدل وإنصاف، وبينت فيها كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على قمة التجرد والإخلاص، والله ما انتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، ولن ينتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، وسامحوني أن أذكركم مرة أخرى بل وللمرة الألف ما كان من خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، يعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في الشام، أبو بكر الصديق يرسل لقائد الجبهة أبي عبيدة ويقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، والله ما وليته عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
ويرسل الصديق أمراً إلى خالد، فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمير أبي عبيدة بن الجراح، سلام من الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام للقيام على أمرها، وللتولي لشأن جندها، ووالله يا أبا عبيدة ما طلبت ذلك ولا أردته، فأنت في موضعك الذي أنت فيه، لا نقطع دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
قمة التجرد، قمة الإخلاص.
وتصل الرسالة إلى أبي عبيدة فيتنازل أبو عبيدة عن القيادة لـ خالد بن الوليد، وتبدأ المعركة، ويموت الصديق، ويعزل عمر خالد بن الوليد، ويؤمر أبا عبيدة من جديد، ويخفي أبو عبيدة الرسالة، وقيل: أخفاها خالد، والأمر سواء، فكلاهما على درجة عالية من التجرد والصفاء، وبعد انتهاء المعركة دفع أبو عبيدة الرسالة لـ خالد، فانتقل خالد بن الوليد على الفور من القيادة وتركها لأخيه أبي عبيدة ليكون خالد جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً.
قمة التجرد يا إخوة، ناقشني بتجرد وإخلاص، ادع الله أن يكون الحق معي، وأنا أدعو الله أن يكون الحق معك، فهدفي وهدفك أن يعلو الحق.