للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حياة البرزخ ووصف قبض الروح]

ثم تعالوا بنا أيها الأحباب لنلقي نظرة سريعة على حاله في هذه الدار، دار البرزخ؛ لأننا نؤمن إيماناً صادقاً أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران؛ لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠]، نقر بذلك بأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، وأن من مات وعليه حق من العذاب ناله هذا النصيب من العذاب سواء قبر أو لم يقبر، دفن أو لم يدفن، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل الدور ثلاث، ألا وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل الله لكل دارٍ أحكاماً تخصها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبعٌ لها، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الله الأحكام في دار القرار تسري على الأبدان والأرواح معاً، ذكر ذلك الإمام ابن القيم في كتاب الروح، والإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية، هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم.

فالإيمان بعذاب القبر ونعيمه أمر واجب، والتصديق به أمر لازم، ولقد تواترت الأخبار من نبينا المختار صلى الله عليه وسلم على ثبوت ذلك، وكفانا دليلاً على ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والترمذي والنسائي والبيهقي، وأخرجه وصححه الحاكم وابن حبان، قال البراء في معنى ما قال؛ لأن الحديث طويل حتى لا نكون ممن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، ولما لم يلحد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إلى أصحابه من حوله، وقال: يا إخواني! يا أصحابي! استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر).

قالها صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، وكان بيده صلى الله عليه وسلم عود ينكت به الأرض، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أمر أصحابه أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكةٌ من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس).

الله أكبر! العبد المؤمن له كرامة عند الله في دنياه، وعند مماته وفي أخراه، وصدق من قال: حق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته.

(إذا كان العبد المؤمن في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ومعهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه، ويقول: يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه تسيل كما يسيل الماء من فيّ السقاء، فإذا ما أخذها لا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، فتأخذها وتضعها في أكفان الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتنبعث لها رائحة كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض.

ثم تصعد بها الملائكة إلى السماء، فإذا مرت بها الملائكة على سماء من السماوات، قالت الملائكة في السماوات: لمن تكون هذه الروح الطيبة؟ فتقول الملائكة التي تشيعها: إنها روح فلان بن فلان، بأطيب أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى إذا ما انتهوا بها إلى السماء السابعة، قال الله جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في عليين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.

ويأتيه في قبره ملكان فيجلسانه ويسألانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله.

ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام.

ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله جل وعلا فآمنت به وصدقت.

فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، يأتيه من روحها وطيبها).

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بخير، فيقول: أبشرك فأنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد، فينادي العبد على الله جل وعلا ويقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع لأهلي ومالي.

أما العبد الكافر -والعياذ بالله- إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة جاءته ملائكة سود الوجوه معهم مسوح، -ليف من النار والعياذ بالله- فيجلسون عند رأسه، فإذا جاءه ملك الموت قال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنتزع روحه كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول، -أي: الحديد الصلب- فلا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، وتلفها في هذا المسوح من النار، وإذا ما أرادوا أن يصعدوا بها إلى السماء انبعثت لها رائحة كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، ولا تفتح لها أبواب السماء، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠]، ثم ينادي الحق جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه أرضاً، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١].

وتعاد روحه إلى جسده في القبر، ويجلسه الملكان، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.

ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.

ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.

فيقولان: لا دريت ولا تليت.

ثم ينادي منادٍ: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من سمومها -والعياذ بالله- ويضيق عليه قبره فتختلف أضلاعه -والعياذ بالله- ويأتيه رجل شديد سواد الوجه، نتن الرائحة، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بشر، فيقول: أنا عملك السيئ، وهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول العبد: رب لا تقم الساعة).

هكذا أيها الأحباب القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، فاستعدوا للقاء الله جل وعلا، واستعدوا لهذا اليوم الموعود، الذي ستنقلون فيه من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.

أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.