[نماذج وصور من حياة الخائفين]
روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى مالا ترون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته، ساجد لله عز وجل، ثم قال: والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله جل وعلا).
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ما سمعت مثلها قط، وكان مما قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
يقول أنس: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين).
أي: لهم بكاء بصوت خافت.
ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: لما مات عثمان بن مظعون وهو من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين، وممن شهد بدراً، وأول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع.
لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، وبكى رسول الله حتى سالت دموعه على خد عثمان بن مظعون.
ولما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها: أم العلاء قالت: رحمة الله عليك أبا السائب رحمة الله على عثمان بن مظعون، رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي لك أن الله قد أكرمك، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟! قالت: والله لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟ أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم عثمان بن مظعون؟! (بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله لا أدري فمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين وإني والله لأرجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي).
ولم لا يخاف خاتم الأنبياء وقد خاف من قبله الملائكة من رب الأرض والسماء؟ قال الله عز وجل: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:١٣]، ولم لا يخاف بعد الملائكة وبعد الأنبياء المؤمنون الصالحون العارفون العالمون برب العالمين؟! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري، فيقول ابن عباس: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، فقال عمر: ذلك منٌّ منَّ الله به عليّ، ثم قال -وتدبر ما قاله عمر -: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه).
انظروا يا إخوة! لتقفوا على حال قسوة قلوبنا، إننا نسمع كلاماً -ورب الكعبة- يذيب الصخور، ويفتت الرمال، ولكنك تنظر إلى كثير من القلوب وكأن أصحابها ما سمعوا شيئاً عن علام الغيوب، وعن الحبيب صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأن قلوبنا مريضة إلا من رحم ربك جل وعلا، لم تعد الموعظة تؤثر، ولم يعد القرآن يهز القلب، ولم يعد كلام النبي عليه الصلاة والسلام يحرك الوجدان، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القلوب في صدورنا إما مريضة وإما ميتة.
قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: في مجالس العلم، وعند سماع القرآن، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك).
اللهم اشف قلوبنا وأحيها يا رب العالمين! أيها الأحبة! لقد قست القلوب وتراكمت الذنوب على الذنوب، وبَعُدَ القوم من علام الغيوب، وتجرأنا على الله وتجاوزنا شرع رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا عمر بن عبد العزيز تدخل عليه امرأته فاطمة بنت عبد الملك فتراه قابضاً على لحيته يبكي، فتقول له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فيقول لها: يا فاطمة! لقد وليت من أمر هذه الأمة وفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والمضروب المقهور، والأرملة، والمسكين، وفي ذي العيال الكثير، وفي غيرهم وأشباههم في أقطار البلاد وأطراف الأرض، وعلمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله جل وعلا.
وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان: أسألك بالله يا حماد! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا الشافعي لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني: كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد الشافعي قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟!