الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إن الغاية العظيمة التي من أجلها خلقنا قد بينها لنا ربنا جل وعلا في قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، والعبادة -أيها الأحبة الكرام- ليست أمراً على هامش الحياة، ولكنها الأصل الأول الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الكتب، وأرسل جميع الرسل، ومع ذلك فإن كثيراً ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية التي من أجلها خلقوا، ولأجلها ابتعثوا! فأردت في هذه الأيام الطيبة المباركة أن أذكر نفسي وأحبابي بهذه الغاية العظيمة، وفي زمان الفتن والشهوات والشبهات تحولت تلك الغاية العظيمة في حياة كثير من الناس إلى أمر هامشي في الحياة.
فما هي العبادة؟ ومن نعبد؟ ولماذا نعبد؟ وبماذا نعبد؟ الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة هو موضوع كلمتنا في هذه اللحظات بإيجاز شديد.
أولاً: العبادة في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل تقتضي إلى جانب الذل: الحب، فهي كما قال شيخ الإسلام: كمال الذل لله مع كمال الحب لله جل وعلا، وقد عرفها رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وجهاد المنافقين والمشركين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتوكل والتفويض والرجاء والإنابة والخشية والاستعانة كل هذا من العبادة.
إذاً: العبادة التي خلقنا لها تسع الحياة كلها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية، وكانت العبادة الظاهرة أو الباطنة موافقة لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم الأدلة النبوية على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أصحابه فقالوا:(يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور أي: أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -سبقونا بالصدقة والبذل والإنفاق والعطاء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل لامرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك لو وضعها في الحلال فله فيها أجر).