[حرب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام]
نزل الوحي الكريم ليأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والجهر بها، فنزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]، ونزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤]، ومن هنا بدأت الحرب، فقد استجاب النبي لأمر رب العالمين، فصعد على جبل الصفا -والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة - وظل ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا إليه ووقفوا بين يديه حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج بنفسه أرسل رسولاً ليقف على الخبر.
فخرجت قريش وعلى رأسها أبو لهب، والنبي على جبل الصفا يقص عليهم القصة بأسلوب نبوي بليغ، فيقول عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط -وهذه شهادة أولية- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، عند ذلك قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥].
أيها المسلمون! من تلك اللحظة أبرقت مكة وأرعدت، وأرغت مكة وأزبدت، ودقت مكة طبول الحرب وأوعدت، وصبت جام غضبها على ولدها الأمين البار الذي حكمت له -بالإجماع- بالصدق والأمانة قبل أن يبعثه ربه جل جلاله، وراحت ترمي النبي صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والشتائم، وتعلن الحرب الضروس السافرة على النبي الصادق صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالكذب، واتهموه بالسحر، واتهموه بالجنون، واتهموه بالشعر، قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:٦]، وقال الله حكاية عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:٤]، بل ازداد الأمر سوءاً حتى تطاولت امرأة عليه، وأرجو أن تتخيل امرأة تطاولت على رسول الله، فما ظنك بما يفعله الرجال؟! تطاولت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم، فداست على أنوثتها، وراحت لتسابق رجال المشركين شراسة ووحشية وإيذاء لسيد البشرية، إنها حمالة الحطب امرأة أبي لهب، التي حملت حجراً بيديها وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لترميه بالحجر وهو جالس إلى جوار صاحبه الصديق في ظل الكعبة، فأخذ الله بصرها عن رسول الله فلم تر إلا أبا بكر رضي الله عنه، فقالت امرأة أبي لهب: أين صاحبك يا أبا بكر؟! فلقد بلغني أنه يهجوني، والله لو رأيت محمداً لضربت وجهه بهذا الحجر.
ثم أنشأت تقول: مذمماً عصينا -تقصد محمداً صلى الله عليه وسلم- وأمره أبينا، ودينه قلينا.
؟ والحديث رواه البيهقي وهو حديث حسن بشواهده.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما أبو جهل يجلس مع أصحابه عند البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ قال أبو جهل: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان ليلقيه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء بسلا الجزور، وانتظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم فألقاه على ظهر النبي بين كتفيه وهو ساجد، يقول ابن مسعود: وأنا أنظر وما أملك أن أفعل لرسول الله شيئاً.
أرجو أن تتصوروا -أيها الشباب- مراحل الابتلاء، ومراحل الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وظل النبي ساجداً حتى جاءت فاطمة الزهراء، فأزالت النجاسة من على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع النبي رأسه وهو يقول: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش).
وفي صحيح البخاري أن هذا الفاجر الخبيث عقبة بن أبي معيط قام على النبي يوماً وهو يصلي، فخنق النبي خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج، وجاء الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدفع عقبة عن رسول الله ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:٢٨].
إيذاء وابتلاء، وحرب هوجاء ضروس، والله ما جاء يرجو مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا وجاهة، بل جاء لينتشلهم من ظلم الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل جلاله.