رابعاً: أنفق في سبيل الله في هذا الشهر، ولا تبخل، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، وأنفق يمنة ويسرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من يوم إلا وينزل ملكان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
أيها المسلمون! يا من منَّ الله عليكم بالأموال اعلموا أن لكم إخواناً فقراء، ربما لا يتذوقون طعم اللحم في رمضان كله، فيا أيها المسلم! تدخر لمن؟! قال الحبيب صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح البخاري - لأصحابه:(أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) أي: من منكم يحب المال الذي سيتركه للورثة أكثر من حبه لماله هو؟ فقالوا: يا رسول الله! كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال الحبيب:(فإن مالك ما قدمت، ومال ورثتك ما أخرت).
وقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم عائشة أن تتصدق بالشاة المذبوحة، فقد روى الترمذي بسند حسن صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم عاد إليها وقال: (ما بقي من الشاة يا عائشة؟ فقالت: ما بقي منها شيء أبداً إلا الذراع هذا، تركته لك؛ لأني أعرف أنك تحب الذراع يا رسول الله! أو قالت: ما بقي منها شيء إلا كتفها، فقال الحبيب: بل بقيت كلها إلا كتفها) فما تصدقت به فهو الباقي، وما أكلت فهو الفاني.
وفي الحديث الذي في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا بن آدم! تقول: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟) أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل، أو ثياب تبلى، أو صدقة تبقى.
فيا أيها الحبيب! لقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان، وما منع النبي صلى الله عليه وسلم سائلاً أبداً، بل لقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى المصطفى فسأله، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى غنم بين جبلين، فقال:(انظر إلى هذه الغنم، سقها فهي لك! فساق الرجل الغنم كلها بين يديه، وذهب إلى قومه قائلاً: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر).
فيا أيها المسلم! أنفق في رمضان، وهيا فكر من الآن، فإن منَّ الله عليك بالمال فلا تنس جارك الفقير، ولا تنس الفقراء والمساكين، فيا أهل الأموال! قدموا الطعام والصدقة، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، ومالك أيها الحبيب! هو ما قدمت، ومال ورثتك هو ما أخرت، فورب الكعبة! لن ينفعك أحد على ظهر هذه الأرض، فيا أيها المسلم! ويا أيها الحبيب! أنفق لله عز وجل في رمضان، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق كما قال في كتابه:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:٦].
وسامحوني على تكرار هذا الحدث، فإنه يحلو لي أن أذكّر به في كل مرة أتطرق فيها للحديث عن قضية الرزق: هذا عبد من عباد الله الصالحين يقال له: حاتم الأصم -ووالله! ما أذكرها هنا إلا لأذكر بها؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين- أراد حاتم الأصم أن يحج بيت الله الحرام، فجمع هذا الرجل الصالح أبناءه وقال: إني ذاهب إلى حج بيت الله، فبكى الأبناء وقالوا: ومن يطعمنا؟! ومن يأتينا بما نريد؟! وكان لهذا الرجل فتاة تقية نقية، فقالت الفتاة لأبيها: يا أبت! اذهب، فإنك لست برازق، فانطلق الرجل، وبعد أيام قليلة نفد الطعام الذي كان في البيت، فقامت الأم لتعنف هذه الفتاة، وقام الأخوات ليعنفن هذه الفتاة، وخلت هذه الفتاة التقية بنفسها، ورفعت شكواها إلى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إلى من -قال وقوله الحق- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:٢ - ٣] رفعت شكواها إلى الله، فاستجاب الله دعاءها، وفي الوقت نفسه كان أمير البلدة يمر ليتفقد أحوال الناس، وعند باب حاتم الأصم أحس بعطش شديد كاد أن يقتله، فقال جندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فأسرع الجندي إلى أقرب باب إلى باب بيت حاتم الأصم، فأحضر له أهل البيت كوباً نظيفاً، وماءً بارداً، من باب:(أنزلوا الناس منازلهم) وهذا أيها الشباب! ليس من المداهنة وليس من الرياء أو النفاق، فيجب علينا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نقدر الناس قدرهم، وهذا من الدين ومن الإسلام، فلما شرب الأمير الماء، قال: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال: هذا العبد الصالح؟! قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله الحرام، فقال الأمير: إذاً: حق علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته -وكانت عملتهم من الذهب- فجاء بكيس مملوء بالذهب وألقاه في بيت حاتم الأصم، ولكن الرزاق أراد الزيادة، فأنطق الله الأمير، فالتفت الأمير إلى الجند الذين من حوله وقال: من أحبني فليصنع كصنيعي، فألقى كل جندي ما معه من الأموال، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية تبكي، وراحت الأم تفرح وتسعد مع الأخوات، فدخلوا عليها وسألوها: لماذا هذا البكاء، وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت لهم: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟! فلا تخش انعدام الرزق، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق ذو القوة المتين، كما قال سبحانه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}[الذاريات:٢٢ - ٢٣].