[السبب الأول من أسباب الرزق الدينية]
أما الأسباب الأخرى، فهي الأسباب الإيمانية الدينية، وهذه لا يذوق طعمها ولا يعرف حلاوتها إلا من وحد الله، فما هي هذه الأسباب؟ أما الأسباب المادية فإنها معلومة للجميع، ولكن الذي أود أن أؤكد عليه: أن الأسباب الإيمانية الدينية غفل عنها كثير من المسلمين.
ومن أعظم وأهم هذه الأسباب: التوكل على الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] أي: فهو كافيه، تدبروا هذا، فوالله لو تدبر الناس هذا ما أكل الحرام من أكل، وما ارتشى من ارتشى، وما قتل من قتل، وما سرق من سرق إلا وهو جاهل بحقيقة التوكل على الله.
إن المفهوم الحقيقي لقضية الرزق مع التوكل على الله جل جلاله، وإلا فإننا نسمع بأذاننا في كل يوم تقريباً من يقول: انظر حولك، انظر خلفك، انظر بين يديك، الناس يتكاثرون، الأمطار تقل، الرزق يقل، من أين نأتي لهذه الأفواه الكثيرة بالطعام والشراب؟ ونسي هؤلاء أن الذي يرزق الكفار هو الله، أفيرزق الكفار وينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] أي: كافيه.
وقال في الحديث الذي صدرت به الموضوع: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
ومن أرق وألطف ما قرأت في هذا الباب: أن حاتم الأصم -ذلكم الرجل الذي ذكرت أنه من سادة المتوكلين على الله- سأله رجل يوماً وقال له: يا حاتم! من أين تأكل؟ فقال له حاتم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٧]، أنت ترزق حتى إذا ما وجدت أخاً من إخوانك قد لبس ثوباً جميلاً قلت له: من أين أتيت بهذا الثوب؟ لو كنت رزاقاً ترزق العباد ونسيت أن ترزق هذا فسل: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٧].
هذا الرجل - حاتم الأصم - كان فقيراً لا يملك إلا اليسير، وكان قد سمع الناس يتكلمون في حج بيت الله ويستعدون لذلك، فاشتاق لحج بيت الله، فجمع أولاده وقال: يا أولادي! لقد عزمت الآن على حج بيت الله، فقالوا: ومن يطعمنا؟ ومن يرعانا؟ ومن يأتي بحوائجنا؟ ومن يقضي لنا حوائجنا؟ فردت بنت صغيرة من بناته وقالت: يا أبتي! اذهب إلى حج بيت الله فإنك لست برازق.
وانطلق الرجل، ونفذ الطعام في البيت، وشعرت الأسرة بالجوع ودخلوا على هذه البنت التقية المتوكلة بالتوبيخ والتعنيف والتأنيب، فخلت هذه البنت بربها وقالت: إلهي وسيدي ومولاي! لقد عودت القوم فضلك فلا تحرمنا من فضلك، ولا تخزني بين أهلي.
وفي هذا التوقيت يقدر الرزاق ذو القوة المتين: أن يكون أمير البلدة في الشوارع والطرقات يتفقد أحوال الناس، وبينما هو أمام باب حاتم الأصم شعر بظمأ شديد كاد أن يقتله، فقال لجندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فلما علم أهل البيت أن الأمير على بابهم تعجبوا وهم الفقراء الذين لا يملكون شيئاً! يقف الأمير على بابهم سائلاً يطلب الماء! فأحضروا ماء بارداً وكوباً نظيفاً، فلما شرب الأمير الماء سأل: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال الأمير: العبد الصالح؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله، فقال الأمير: إذاً وجب علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته، وكانت العملة من الذهب، فأخرج صرة مملوءة ذهباً وألقاها في بيت حاتم الأصم.
ولكن الرزاق أراد المزيد، فالتفت الأمير إلى الشرطة والجند من حوله وقال: من أحبني فليصنع صنيعي، فألقى كل شرطي ما معه من المال مجاملة لأميره، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية المتوكلة تبكي، فدخلت عليها أمها مع أولادها وقالت: لم البكاء وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت هذه الفتاة الطيبة: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣]، أما حاتم، فلقد أصيب أمير الحج بلدغة عقرب فسأل: هل في القوم من راق؟ قالوا: بيننا حاتم الأصم الرجل الصالح قال: ائتوني به، فرقاه حاتم فشفاه الله جل وعلا، فجعل له الأمير جعلاً كبيراً، فكان حاتم من أغنى الناس نفقة في الحج.
إن الذي يرزق هو الله.