[وجوب التوبة إلى الله]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هكذا تبدأ رحلتنا في رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بينا بإيجار حقيقة الدنيا، وتنتهي هذه المرحلة الأولى بالوصول إلى القبر، وهأنذا أقف بكم أمام القبر وعند القبر؛ لنرى في لقائنا المقبل إن شاء الله جل وعلا حقيقة القبر، وما معنى البرزخ؟ وما معنى النعيم؟ وما معنى الجحيم؟ ولماذا لم يذكر الله عذاب القبر صراحة في القرآن؟ وهل ثبتت فيه أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما هي حقيقة القبر؟ وما هي حقيقة البعث بعد ذلك؟ لنواصل الرحلة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.
وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي في هذه اللحظات بالتوبة إلى رب الأرض والسموات.
يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! يا من ضيعت الصلاة في بيوت الله! يا من تركتِ الحجاب الشرعي! يا من شغلك التلفاز أو الشيطان عن الله عز وجل! يا من أعرضت عن مجلس العلم وأماكن الخير والطاعة والعبادة! يا من قضيت عمرك على المقاهي وتركت فرض الله عز وجل! تب إلى الله، والله! إنك ستموت والله! إنك ستموت، وغداً يا مسكين! ستتمنى الرجعة، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩].
فإن كان كافراً سيتمنى الرجعة، وإن كان مسلماً عاصياً سيتمنى الرجعة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] سبحان ربي! هو غير متأكد إن كان سيعمل صالحاً أو لن يعمل صالحاً، مع أنه يتمنى على الله أن يعود! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] فيأتيه الجواب كالصفعة على خديه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:١٠٠] أي: كلمة حقيرة، كلمة تافهة لا وزن لها عند الله: {هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].
فتب إلى الله، وأذكر نفسي وإياك ألا تيأس ولا تقنط مهما بلغت ذنوبك، فعد إلى الملك مهما كثرت معاصيك، واطرق باب الرحمن جل وعلا، والله! لن يغلق الرحمن الباب في وجهك، وإن ارتكبت الزنا، وإن شربت الخمر، وإن قتلت، فعد إلى الله، فإن الله يقبل توبة المشرك إن خلع رداء الكفر على عتبة الإسلام، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
فعاهد ربك الآن على التوبة، وعاهدي ربك على التوبة.
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨].
وأذكرك بهذا الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، فاسجد لربك شكراً يا من خلقت موحداً! وبعث الله إليك محمداً، فإن هذا من فضل الله علينا.
أيها الحبيب! اجتهد في الدنيا، وعمر الكون، وإن استطعت أن تربح مليوناً فافعل، بشرطين: أن تربح من الحلال، وأن تؤدي حق الكبير المتعال، فاجتهد في الدنيا، وازرع للآخرة؛ فأنا لا أريد أن أقنطك من هذه الحياة أبداً، وإنما أريد أن أذكر نفسي وإياك بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا ينبغي أن تنشغل بالدار الفانية عن الدار الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة، ولن ينفعك إلا ما قدمت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل) وينادى عليك هنالك في القبر بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفى التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين! اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته.
اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وسددته يا رب العالمين! ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده دوماً تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.