رابعاً: رمضان شهر الإنفاق والإحسان، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان.
أخي الحبيب! أخرج زكاة مالك في رمضان لتنال الأجر المضاعف من الرحمن، وأكثر من الصدقة في رمضان، وتعرف على بيوت الفقراء والمساكين في رمضان، وعليك أن تجعل ضمن برنامج الطاعة في رمضان نصف ساعة لتذهب إلى بيوت الفقراء والمساكين في الليل البهيم؛ لتدخل إلى قلوبهم البسمة والسعادة والسرور؛ ليملأ الله قلبك سعادة في الدنيا والآخرة، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فوالله لن يقلَّ مالك من الصدقة.
روى أحمد بسند صحيح من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ثلاث أقسم عليهن -الرسول يقسم وهو الصادق الذي لا يحتاج إلى قسم-: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) فأنفق أيها الحبيب! يا من منَّ الله عليك بالمال، أطعم الطعام في رمضان، وليس بالضرورة أن يكون إطعام الطعام للفقراء فحسب في بيوت الله، وإنما قدم الطعام ليأكل منه الغني والفقير والمسافر والمقيم، فأطعم الطعام فإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهذا شطر من حديث معاذ الصحيح الذي فيه:(ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) فأكثر من الصدقة والإنفاق، فقد جاء في الصحيحين مرفوعاً:(وما من يوم إلا وينادي ملكان من السماء؛ فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) والله عز وجل يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:٢٦٨] فمالك يا ابن آدم! تقول: مالي مالي مالي؟، الدولارات، والعمارات، والسيارات! (وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟!).
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال:(أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ -أي: من منكم يحب مال الورثة بدرجة تفوق حبه لماله الخاص؟ - قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر) فهيا نافس أهل الخير على قدر جهدك وطاقتك، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:١٦] فابحث عن الفقراء والمساكين وأطعمهم؛ فإن هناك من بيوت المسلمين من لا يذوق طعم اللحم في العام إلا مرة أو مرات قليلة، في الوقت الذي يرمى فيه اللحم في كثير من بيوت المسلمين بعد موائد الطعام، ولا أنسى أن أذكر مرة أخرى برجل طيب في مدينة المنصورة الطيبة، وقد ذكرت قصته في شريط (الإسلام وسعادة البشرية) ذلكم الرجل الأستاذ الدكتور الذي أصيب بمرض في قلبه، وانطلق هنا وهنالك عند الأطباء ليبحث عن دواء وعلاج، وأخيراً قرر السفر إلى لندن في بريطانيا، وأجريت له الفحوصات، وبذل له الأطباء العلاج، وقرروا له جراحة عاجلة، فقرر هذا الرجل الطيب المسلم أن يعود مرة أخرى إلى المنصورة ليلتقي بأهله وأحبابه، وكان يقول: ظننت أن هذه الجراحة سينتهي بها الأجل، فأحببت أن أرى الأهل والأحباب قبل أن ألقى الله عز وجل، فعاد إلى المنصورة، وقبل السفر إلى لندن بأيام كان يجلس مع صديق له في مكتبه الخاص إلى جوار رجل يبيع اللحم، وفجأة لفت نظره وشد انتباهه مشهد مؤلم يحطم القلب، رأى امرأة كبيرة في السن تلتقط العظم واللحم النيئ الذي يلقى على الأرض من جوار هذا الرجل الذي يبيع اللحم، فنظر إليها، وتأثر بها! ونادى عليها وقال: ما تصنعين يا أماه؟! قالت: والله يا بني إن أولادي ما ذاقوا طعم اللحم منذ ستة أشهر، فأردت أن أجمع لهم بعض العظام مع بعض اللحم النيئ، فتأثر الرجل، ورقت عينه، وخشع قلبه، وانطلق إلى هذا الجزار وقال: هذه المرأة إن أتتك في أي وقت فأعطها ما تشاء من اللحم، وأخرج له على الفور مالاً يعادل قيمة اللحم الذي ستأخذه في سنة كاملة، فبكت المرأة وتأثرت، وعادت إلى البيت في غاية السعادة والسرور بقطع اللحم الذي ستسعد بها أولادها وأبناءها، وعاد الرجل إلى بيته سعيداً فرحاً، وهو صاحب القلب المريض الذي لا يقوى على الحركة، ولكنه حس بالنشاط والحيوية، وحس بالسعادة والانشراح، ولما دخل البيت قابلته ابنته فقالت: يا أبت! ما شاء الله؛ أراك نشيطاً سعيداً، فقص عليها ما قد كان، فبكت البنت وقالت: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه الفقيرة وأبناءها، واستجاب الملك دعاء الفقيرة ودعاء الفتاة، والتفت الجميع إلى خفته وحيويته ونشاطه فتعجبوا، وقال: أشعر -ولله الحمد- بأن الله قد عافاني، ولا أشعر بأي عرض من الأعراض التي كنت أشعر بها قبل ذلك، فصمم الجميع على سفره إلى لندن، وهنالك لما نام بين يدي طبيبه ليجري له الفحوصات مرة أخرى فزع الطبيب واندهش، وقال له: عند أي الأطباء في مصر قد تعالجت؟! فقال: تاجرت مع الله فشفاني الله عز وجل! فالصدقة -يا إخوة- تطفئ الخطيئة، وتطفئ غضب الرب جل وعلا، فلا تحتقر أمر الصدقة، والله الذي لا إله غيره! إن الله سيدفع بالصدقة عنك من الأذى والمصائب والبلاء ما لو عرفته لأنفقت لله في الليل والنهار، فضع ضمن برنامج رمضان الصدقة، فتصدق، وأخرج زكاة مالك؛ لأن الله عز وجل يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:٩٢] والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، كما قال الشاعر: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبينها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى من عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها قال جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:٤٥ - ٤٦].
وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن فأنفق أيها الحبيب! وتصدق على الفقراء والمساكين؛ فإن رمضان شهر الإنفاق والجود والإحسان، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأواصل ما تبقى من عناصر هذا اللقاء بعد جلسة الاستراحة في عجالة إن شاء الله تعالى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.