للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نعمة الإيمان والعيش في بلاد الإسلام]

أولاً: الحقائق: إن أكبر حقيقةٍ أذكر بها نفسي وإياكم أن من قدَّر الله له زيارة تلك البلاد عَلم عِلم اليقين أن أعظم نعمةٍ امتن الله بها علينا -ونحن نغفل عنها- هي نعمةُ الإسلام والإيمان، نعمة التوحيد لله العزيز الحميد، أعظم نعمة وأكبر نعمة امتن الله بها علينا من غير اختيار منا ومن غير فضل منا، ولا بقوة عقولنا، فإن القوم هناك قد ناطحوا السحاب بما أبدعته عقولهم، وعرفوا كل شيء في الكون إلا خالقه جل وعلا! فالفضل لله ابتداءً وانتهاء أن من علي وعليك بالتوحيد والإيمان والإسلام.

ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا من أنا ومن أنت ليشرفنا الله بعبادته وتوحيده جل وعلا؟! إنه محض فضل الله على العباد ابتداء وانتهاء، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣] {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:٧ - ٨] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧].

ذلك الفضل من الله جل وعلا، فيا منْ منَّ الله عليك بلا إله إلا الله وبنعمة الإسلام وبنور الإيمان! لا تغفل عن هذه النعمة، واسجد لربك شاكراً، واحمد الله مع كل نفس من أنفاس حياتك أن خلقك الله موحداً بغير رغبة منك ولا اختيار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي لفظ مسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه) ينشأ في بيت يهودي يقول: عزير ابن الله! فينشأ يهودياً كافراً بمولاه.

(أو ينصرانه) ينشأ في بيت يقول: عيسى ابن الله، أو المسيح ابن الله! فينشأ كافراً بمولاه.

(أو يمجسانه) ينشأ في بيت يعبد النار من دون الله فيخر لها ساجداً من دون مولاه! قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -أي: مكتملة- ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]).

وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء) أي: على الملة الحنيفية السمحة، وعلى فطرة التوحيد، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣] قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) فالفضل لله ابتداء وانتهاء.

وإذا منَّ الله عليك -بعد نعمة الإسلام والإيمان- ببيئة تعينك على طاعة الله، وعلى ذكر الله، وتحول بينك وبين معصية الله فهي نعمة أكبر ونعمة أعظم، ولا يعرف قدر بيئة الطاعة التي ذكرتها إلا من ذهب إلى تلك البلاد، فإن البيئة هناك تؤزك إلى المعصية أزاً، وتدفعك إلى معصية الله دفعاً، فلا تقع عينك في أي مكان إلا على معصية، في المطار في القطار في الطائرة في المصنع في الفندق في الشارع في المحل في التلفاز في المجلة في الجريدة، لا تقع عينك -بلا ذرة من المبالغة- إلا على معصية.

ففي كل لحظة تنظر وفي كل وقت تمشي لا تقع عينك في تلك البيئة إلا على معصية الله جل وعلا، ولا يعصمك إلا الله، لا يوجد أحدٌ يذكرك بالله، إلا إذا التقيت بأخ من إخوانك يتلهف لرؤياك وتتلهف لرؤيته، كل ما في تلك البيئة يؤزك إلى المعصية أزاً، ومن رأى تلك البيئة عرف فضل بيئة الطاعة التي نعيشها.

ووالله إن أطهر وأشرف بيئة على ظهر الأرض تعينك على طاعة الله هي بيئة بلاد الحرمين، أقولها لمرضاة الله جل وعلا، هذه البلاد بلاد الحرمين التي هي جزيرة الإسلام، وفيها مهبط الوحي وأرض الرسالات فيها بيت الله جل وعلا، ومسجد رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، فكلما تجاذبت الإنسان أشواك الطريق هرول مسرعاً إلى بيت الله أو إلى مسجد رسول الله شاداً إليه الرحال؛ ليغتسل هناك، وليرفع إلى الله أكف الضراعة، ليرجع وقد شرح الله صدره، وغفر ذنبه، وفرج كربه، إنها بيئة تدفعك إلى الطاعة دفعاً، وتحول بينك وبين المعصية حولا، إلا لمن بحث عن المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر، فهذه ما خلا منها زمان ولا مكان، بل لقد كانت على عهد سيد ولد عدنان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

كيف لا وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى كما في صحيح البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين -أي: المسجد الحرام والمسجد النبوي- كما تأرز الحية في جحرها) ومعنى يأرز: أي يتجمع وينضم كما تنضم وتتجمع الحية في جحرها، فالإسلام -بشهادة رسول الله- يأرز وينضم ويتجمع بين المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.

بل وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، إلا في التحريش بينهم) أي: يوقع بينهم من الفساد والعداوة والبغضاء، لكن أن يعبده المصلون من دون الله جل وعلا في الجزيرة فلا، فالشيطان ما يئس من أن يعبد في أرض من أرض الله -بشهادة رسول الله- إلا في أرض الجزيرة العربية، وهذه نعمة من الله جل وعلا، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكما أن الله سبحانه قد اختار من الخلق الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم الخمسة، واختار من أولي العزم الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمداً، فكذلك اختار الله جل وعلا له أرضاً، فاختار مكة وشرفها على بقاع الأرض كلها، وقد جاء في سنن الترمذي وابن ماجة بسند حسن صحيح أن رسول الله حين خرج مهاجراً قال يخاطب مكة: (والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت أبداً)، ويوم أن ترك مكة وذهب إلى المدينة دعا لها وقال -كما في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك -: (اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة) واستجاب الله دعاء حبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

بل وقال كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس: (إن على مناقب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا يدخلها الدجال) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فمن من الله عليه بالإيمان وببيئة تعينه على طاعة الرحيم الرحمن فليسجد لله شكراً، وليعرف قدر هذه النعمة، وليضرع إلى الله جل وعلا أن يثبته عليها وأن يتوفاه عليها، أسأل الله أن يجعل بلاد الحرمين أمناً أماناً، سخاء، رخاء، وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.