[رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف]
وبعد موت أبي طالب كشرت قريش عن أنيابها، وضاعفت الأذى والاضطهاد على رسول الله وعلى الموحدين، وترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأرض الصماء، هذه الأرض الجامدة، وخرج يبحث عن أرض أكثر خصوبة؛ ليبذر فيها بذرة التوحيد؛ ليبذر فيها بذرة لا إله إلا الله.
ويخرج النبي عليه الصلاة والسلام يشق الأودية والجبال تحت حرارة هذه الشمس المحرقة، وعلى هذه الرمال الملتهبة المتأججة، يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين بلا راحلة، لماذا؟ لأنه كان لا يملك ثمن الراحلة.
يتحرك الحبيب على قدميه، لماذا؟ هل يريد جاهاً، أم يريد مالاً، أم يريد سلطاناً؟ لا، بل يريد الله والدار الآخرة، يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد والإيمان.
وتوجه إلى الطائف، خرج إلى الطائف يمشي أكثر من سبعين كيلو على قدميه تحت حرارة الشمس وعلى هذه الرمال، لم يركب سيارة مكيفة، ولا طائرة خاصة، وإنما على قدميه الشريفتين بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد بقية خير في قلوب أناس خارج مكة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تمتد لرفع راية لا إله إلا الله.
مر النبي عليه الصلاة والسلام على أشراف بني ثقيف وساداتها، ولكن القوم كانوا أشد خسة ودناءة مما فعله به المشركون في مكة المكرمة، فسبوه ونهروه وطردوه صلى الله عليه وسلم، وقام -بأبي هو وأمي- يطلب منهم طلباً أخيراً هو أقل ما يطلبه الإنسان من أخيه الإنسان، يقول لهم: (إذ فعلتم بي ما فعلتم فاكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة؛ حتى لا تزداد شماتتهم وظلمهم وعدوانهم)، ولكنهم كانوا أشد خسة ودناءة مما توقعه النبي عليه الصلاة والسلام، فسلطوا عليه الصبيان والعبيد والسفهاء، ووقفوا صفين وأخذوا يرمونه بالحجارة، ويسخرون به، ويسبونه بأقبح السباب والشتائم.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم والألم يعصر كبده، والمرارة تمزق قلبه، قام بحالة تفتت الأكباد وتمزق القلوب: جوعان، عطشان، يتألم من ألم السير بالليل والنهار على قدميه، دعوة مطاردة، وأصحاب تتخطفهم أيدي الطغاة، لا إله إلا الله! وألجأ السفهاءُ والصبيانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى بستان لـ عتبة وشيبة ابني ربيعة، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بعدما جلس والدماء تنزف من قدميه الشريفتين الكريمتين المباركتين إلا أن يستعيد ذكريات شريط الأحزان، شريط الدعوة الطويل إلى الله جل وعلا، فتذكر أصحابه في الحبشة، وتذكر إخوانه الذين يجلدون ويعذبون في مكة، وتذكر خديجة، وتذكر أبا طالب، فلم يجد بداً من أن يرفع هذه الشكوى إلى من يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، رفع إلى الله هذا الدعاء -وإن كان شيخنا الألباني قد ضعف إسناده- لجأ إلى الله بهذه الدعوات الحارة وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ونتوقف في هذا اليوم أيها الأحباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف، لنواصل المسير مع أعظم داعية عرفته الدنيا على طريق الدعوة الطويل في اللقاء القادم إن شاء الله جل وعلا إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزيه عنا خير الجزاء، اللهم اجز عنا محمداً خير الجزاء، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت به نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعل كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.