في الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال:(من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ، قالت عائشة: يا رسول الله أو ليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:٧ - ٨]، فقال المصطفى: إنما ذلك العرض، وليس ذلك هو الحساب يا عائشة، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب).
سينادى عليك ليكلمك الله كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تُرجُمَان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
تنادي الملائكة: أين فلان بن فلان؟!! فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب، قرع النداء قلبك، فاصفر لونك، وتغير وجهك، وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، وعلى رءوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعاً أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك، تتخطى الصفوف.
أسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب.
تتخطى الصفوف صفوف الملائكة صفوف الجن صفوف الإنس، في أرض المحشر لترى نفسك واقفاً بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك الله لتعطى صحيفتك!! هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها؟! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها!! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كان العبد من أهل السعادة وممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاه الله كتابه بيمينه وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات فيؤمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه! ويتغير وجهه! فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى ولن يشقى بعدها أبداً! ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً، وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك -أي: من أهل التوحيد والإيمان- فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه وأعضائه يقول لأصحابه وخلاَّنه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان، انظروا هذا كتابي بيميني! اقرءوا كتابيه! اقرءوا هذا الكتاب معي! شاركوني السعادة والفرحة! انظروا! هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا برى بوالدي، وهذه صدقتي، وهذا إحساني للجيران، وهذا ولائي وبرائي، وهذا بغضي لأعداء الله، وهذه دعوتي، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد.
فإن كانت الأخرى -أعاذني الله وإياكم من الأخرى- وكان العبد من أهل الشقاوة وممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه: أين فلان ابن فلان -وسبحان من لا تختلف عليه الأصوات، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات- أين فلان ابن فلان؟ فيتيقن العبد أنه اسمه ماذا تريدون يا ملائكة الله؟ فيقولون: هلم إلى العرض على الله جل وعلا، فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدي الله فيعطى كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، فيقرأ فيسود وجهه، ثم يكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى منهم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزي، والذل والعار، وكتابه بشماله، أو من وراء ظهره! فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون: لا إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟! فيقول: أنا فلان وهذا كتابي بشمالي ولكل واحد منكم مثل هذا، ويصرخ في أرض المحشر! فلقد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، يصرخ بأعلى صوته ويقول:{يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}[الحاقة:٢٥ - ٣٧].
ولله در القائل: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَا والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأتَ ولم تنكر قراءتهُ أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل: خذُوهُ يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يَلتَهبُوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.