[نفخة البعث]
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] الله أكبر! إنها نفخة البعث، انظر إلى هذا المشهد العجب! يقول ابن مسعود، والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه لـ ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وروى الأثر الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وتعقب الحاكم الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [يبعث الناس يوم القيامة ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية] والعياذ بالله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم (يبعث كل عبد على ما مات عليه) تدبر هذه المشاهد لتقف على خطر هذا اليوم {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:١ - ٤] {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:١ - ٣] ما الذي بدل سكونها؟ ما الذي بدل استقرارها وأمنها؟ ذلك {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٥ - ٨].
يخرج الجميع حفاة عراة غُرلاً، ليعرض الجميع على الله جل وعلا؛ ليكلمك الله، ويعطيك كتابك، فإن كنت من أهل التوحيد السعداء -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يختم لنا ولكم بالتوحيد- أعطاك الله كتابك بيمينك، وقيل لك كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه -والكنف في اللغة لا تأويلاً للصفة فلسنا ممن يؤول الصفات، هو الستر والرحمة- يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه فيقول: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف، رب أعرف، فيقول له الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ويعطيه صحيفة حسناته) أما الآخرون -عياذاً بالله- ينادى عليهم على رءوس الأشهاد: ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين! يدنى المؤمن من ربه ويكلمه الله جل وعلا -ينادى عليه- وتعطى هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، بل كم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فتدبر هذه الآية: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] ستعرضون على الله جل وعلا {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:٩٣ - ٩٥].
فيا أيها الحبيب! أكثر من ذكر هذا اليوم واستعد له بالعمل الصالح؛ بالقرب من الله جل وعلا، وبالبعد عن المحرمات والمعاصي والذنوب، واعلم بأن أقرب غائب تنتظره هو الموت فإن العبد إذا مات قامت قيامته، يسأل في هذا القبر الضيق: عن ربه، ونبيه، ودينه.
فيا أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بالعمل والاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تصير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خَلتِ الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يوفقنا وإياكم للاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم، يوم نقوم لرب العالمين، وأسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.