فحقيقة التوكل أيها الأخيار الكرام! أن نأخذ بالأسباب، وأن تكون قلوبنا في الوقت ذاته معلقة بمسبب الأسباب، إذ إن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب، فالمؤمن يأخذ بالسبب، ويعلق قلبه بمسبب السبب، فإن تيسر أمر فبتيسيره، وإن تعسر أمر فبتقديره، وأنا لا أعلم الآن أمة قد ضيعت قانون السببية كأمة سيد البشرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالأمة الآن متواكلة إلا من رحم ربك جل وعلا، إذ إن الأمة قد ضيعت الأسباب وظنت أنها لعلاقتها بالله تبارك وتعالى، وبنسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم -دون أن تأخذ بالأسباب- ظنت أن الله سينصرها! ولله سنن ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فالمصطفى كان قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب النصر كانت الهزيمة.
إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة.
فالتوكل على الله أن نأخذ بالأسباب: أن نأخذ بأسباب القوة، وأن نأخذ بأسباب النصر، وأن نأخذ بأسباب العزة والاستخلاف والتمكين، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب لا بالأسباب، وهذا هو الفارق بين المؤمن الذي وحد الله جل جلاله، وبين الكافر الذي يأخذ بالأسباب ولا يعلق قلبه إلا بالأسباب فقط.
فحقيقة التوكل صدق اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، فالتوكل هو جماع الإيمان، وهو نهاية تحقيق التوحيد.
قال سهل بن عبد الله التستري: من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالدخول في الأسباب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عمل على سنته فلا يتركن حاله.
فسيد المتوكلين هو رسول الله، ومع ذلك ظاهر يوم أحد بين درعين، واستأجر يوم الهجرة دليلاً مشركاً ليدله على طريق الهجرة، وهو الصادق الذي هدى الله به العالمين، وكان يدخر القوت لأهل بيته، وكان إذا سافر للجهاد والحج والعمرة حمل الزاد والمزاد وهو صاحب القلب الذي لم يتعلق قط إلا بالله رب العالمين.