للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مكانة الدعوة إلى الله عز وجل]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا، الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة والمصطفى في جنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحبتي في الله: إننا الليلة على موعد في هذه اللحظات مع محاضرة تحتاج إلى وقت طويل، إننا الليلة على موعد مع هذه التبعة الثقيلة، والأمانة الكبيرة، والمسئولية العظيمة، ألا وهي تبعة الدعوة إلى الله عز وجل، الذي شرف الله جل وعلا بها الأنبياء والمرسلين، وجعلها وظيفة باقية في خير أمة أرسلت للناس، فالدعوة إلى الله جل وعلا هي أشرف عمل على ظهر الأرض، ولم لا وهي دعوة أنبياء الله ورسله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣] إنها وظيفة الأنبياء، ووظيفة المرسلين، وقد امتن الله عز وجل على لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فجعل هذه الوظيفة في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).

فما من نبي إلا وله أنصار، وحواريون وأصحاب، يحملون راية دعوته، ويتحركون بها معه في حضوره وبعد وفاته، وقد شرف الله عز وجل هذه الأمة فنقل إليها وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن ثم شهد الله سبحانه وتعالى لها بالخيرية؛ فشهادة الله بالخيرية لهذه الأمة -أيها الأحبة- لم تكن اعتباطاً ولم تكن من فراغ، وإنما لأن هذه الأمة قد حملت راية الدعوة إلى الله، وتحركت لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولتعلن على مدى الزمان والمكان إيمانها بالله جل وعلا، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:١١٠].

والدعوة إلى الله عز وجل الآن -كما قال أكثر علمائنا- فرض عين وليست فرض كفاية؛ وذلك لكثرة المنكرات، ولقلة الآمرين بالمعروف، ولتحرك أهل الباطل لباطلهم بكل السبل والوسائل، فأصبحت الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل على حسب استطاعته وعلى حسب مقدرته.

وأنا أود أن يفرق الأحبة بين أمرين: بين طلب العلم الشرعي، وبين الدعوة إلى الله، فكثير من الأحبة الكرام يتقاعس عن الدعوة إلى الله جل وعلا بحجة أنه لا زال يطلب العلم! وأنا أقول: من قال لك بأن طلبك للعلم سينتهي عند فترة من فترات العمر، إن طلب العلم لا ينتهي ما دمت في هذه الحياة، رأى أحد الناس إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى يحمل المحبرة بين يديه يوماً من الأيام، فتعجب هذا الشيخ، وقال: يا إمام، وصلت إلى ما وصلت إليه ولا زلت تحمل المحبرة! فقال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة.

فطلب العلم لا ينتهي، ولم لا، ولا يزال الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم ممتداًً إلى قيام الساعة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:١١٤]! فلا بد أن نفرق بين طلب العلم الشرعي الذي لا ينتهي عند فترة من الفترات، وبين التحرك في الدعوة إلى رب الأرض والسماوات، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لقول النبي، بل وإن شئت فقل: لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا الحديث للوجوب لا للندب، إذ لم تأت قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.

والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) فكم تحفظ -أيها المبارك- من الآيات؟ وكم تحفظ من الأحاديث؟! (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).