[عظيم أثر الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله]
أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب.
أحبتي في الله! روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد -أي: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد -وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن مسلمة - فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط هذا الرجل في سارية من سواري المسجد -أي: عمود من أعمدة المسجد- وهم لا يعرفونه، وثمامة قيل من أقيال العرب، وسيد من أسياد العرب، وشريف من أشرافهم، أسروه وهو في طريقه إلى العمرة، ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا، وأدخلوه إلى المسجد، وربطوه في عمود من أعمدة المسجد النبوي، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم رآه فعرفه، وفى رواية ابن هشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تعرفون هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحسنوا إليه.
وفي رواية الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دام، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعد الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا نريد شيئاً.
فأطلقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوي فاغتسل، وعاد إلى المسجد، ورفع صوته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة فبماذا تأمرني؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
قال الحافظ ابن حجر: بشره بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بشره بتكفير سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله.
فلما دخل مكة قال له قائل: أصبأت يا ثمامة؟! أي: هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمداً على دينه؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع محمد رسول الله، ثم التفت إليهم وقال: والله! لا تأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ -أي حبة قمح- حتى يأذن فيها رسول الله! وفي رواية ابن هشام: أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية، فكان أول من لبى وجهر بالتلبية في مكة، فلما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا: من هذا الذي يجترئ علينا ويرفع صوته بالتلبية في بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التي يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه؟! فانقضوا عليه، وأرادوا أن يضربوا رأسه، فقال أحدهم: ألا تعرفون من هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأنتم تحتاجون إلى اليمامة في طعامكم، فخلوا سبيل الرجل، فالتفت ثمامة إليهم وقال: والله! لا تأتيكم حبة حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفي هذا قال بعض بني حنيفة: ومنا الذي لبى بمكة معلناً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم أيها الأحبة الكرام! إنه مشهد بالغ الروعة، وأنا اعترف بداية أنني أعجز عن أن أصور روعته وعظمته وجلاله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه، لا للموحدين فحسب بل للمشركين وللعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له النعمة، وتمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]).
وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) وهو شريف من أشراف أهل الطائف، ولكنه رفض دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب، فرموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر، (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) وهو مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات، (فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، ولقد أرسل الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! فناداني ملك الجبال فسلم عليّ وقال: يا رسول الله! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت.
فقال المصطفى: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، وفي رواية مسلم لما قيل له: ادع على المشركين.
قال: المصطفى صلى الله عليه وسلم (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة).
أيها المسلمون! تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان البُغض المتأصل في قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!!.
ثمامة بن أثال دبر لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبي تلبية الموحدين، فسبحان من بيده القلوب يحولها كيف يشاء! قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:٢٤].
ثمامة أُسر ورُبط في المسجد، وقد ترجم عليه البخاري باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوي؛ ليرى ثمامة بعينيه، وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين ليرى النبي بنفسه، وليسمع كلام النبي، وليرى أخلاقه، فلما رأى ثمامة رفق النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه وأخلاقه؛ تحول البغض في قلبه إلى حب فياض، فهو الذي قال: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي!).
أيها المسلمون! لابد من أن نعي هذا الدرس، ونعلم أن العنف يهدم ولا يبني، والشدة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة، فما أحوجنا إلى أن نعي هذا الدرس! قد يأتي شاب شرح الله صدره للالتزام فيعفي اللحية، ويقصر الثوب، ويحافظ على مجالس العلم، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً، يسيء إلى والده، يسيء إلى أمه، ويسفه أباه، ويحتقر أمه، ويضرب إخوانه، يسيء إلى أخواته! فيظن أهل البيت أن الالتزام نار مشتعلة، وأن الالتزام سوء أخلاق وأدب، وأن الالتزام غصب مستمر! فنقول: يا أخي! أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدري، وأسأت إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من حيث لا تشعر، ففرقوا أيها الشباب! وأيها المسلمون! بين مقام الجهاد الذي يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة، وبين مقام الدعوة الذي يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥].
بل وخاطب الله نبيين كريمين هما: موسى وهارون، وأمرهما أن يقولا لفرعون الذي طغى وبغى قولاً ليناً، فقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٣ - ٤٤] قرأ سيدنا قتادة رحمه الله هذه الآية فبكي، وقال: سبحانك ما أحلمك! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً! فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى؟! ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه، ونحن نعلم أن البغض للإسلام الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق والغرب والداخل.
وأرجو أن نعي الدروس التي أود أن أسوقها سوقاً كريماً من خلال هذا الحدث الرائع لرسول الله مع ثمامة، تأصل البغض في قلب ثمامة للنبي، ولدين النبي، ولبلد النبي، ثم تحول هذا البغض بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين إلى حب، هذه هي متط