للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأعمال بالخواتيم]

فالتوفيق بيد الله ابتداءً وانتهاءً، وأولاً وآخراً، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يتوفاهم على التوحيد والإيمان.

استمع إلى كلام حبيبك ومصطفاك -والحديث في مسند الإمام أحمد - وانتبهوا يا إخواني! إلى دقة هذا الكلام، فوالله! إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، واعلموا أن الذي يتكلم به هو المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال لها: يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق الله من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه)، وفي رواية أخرى: (إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وهذا حديث في غاية الخطورة، ووالله! لو أننا نحمل بين طيات جوارحنا إيماناً يلاصق قلوبنا مباشرة وحقيقة، وقرأنا هذا الحديث أو استمعنا إليه؛ لتمزقت القلوب، وارتعدت الجوارح والأفئدة، فالذي يدعو بذلك هو رسول الله، فماذا أقول أنا؟! وماذا تقول أنت؟! الحبيب رسول الله يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وهو المصطفى والمجتبى والمختار، وهو الذي كرمه الله جل وعلا على جميع المخلوقات، بل وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الذي رباه الله على عينه، وهو الذي قال له ربه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:٣]، وهو الذي قال له ربه: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:٤٨]، وهو الذي قال له ربه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧]، ومع هذا: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فارتعدت أم سلمة فقالت: (يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! أي: أن قلبي على الإسلام، وعلى هذا الدين، وعلى هذا الإيمان، فهل من الممكن أن يتقلب عن هذا الإسلام؟! فقال لها: (يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) أو (بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله جل وعلا كيف يشاء).

أيها الأحبة في الله! إن القلوب بيد الله جل وعلا، وإن القلوب لتتقلب، وإن الأمر جد خطير، ويحتاج إلى عمل طويل، وإلى جهاد مرير، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: (إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمان الطويل، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)، وفي رواية أخرى: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة؛ ويسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار)، وروى الإمام البخاري عليه رحمة الله هذا الحديث وزاد في آخره: (إنما الأعمال بالخواتيم).

جاء في سنن الإمام الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الكفل كان من بني إسرائيل، وكان يسرف على نفسه بالمعاصي، وجاءته امرأة تطلب منه المال، فراودها عن نفسها فأبت، وذكرته بالله جل وعلا، فأصر، ولما جلس منها كما يجلس الرجل من زوجه ارتعدت، واصفرت، واضطربت جوارحها، فقال لها: ممن تخافين؟ قالت: أخاف الله رب العالمين، فأرخى عليها ثيابها، وعاهد الله من وقته ألا يعصي ربه طرفة عين، وقدر الله جل وعلا أن مات الكفل في تلك الليلة، ولا يعرف الناس عنه إلا الفسق والضلال، واستيقظ الناس، وذهبوا إلى دار الكفل فرأوا عجباً، رأوا كتابة على باب داره بخط عجيب غريب: لقد غفر الله للكفل جميع ذنوبه! لأنه أخلص التوبة لله جل وعلا.

ويشهد لمعنى هذا الحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وبعدما يأسه العابد من التوبة قتله وأتم به المائة، وبعد ذلك تاب إلى الله جل وعلا على يد عالم، وقبل الله منه التوبة، كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويوم أن خرج من قريته مات، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله إلى الملائكة ملكاً ليحكم بينهم، وقال لهم: (قيسوا المسافة، فإلى أيتهما هو أقرب فهو من أهلها، فقاسوا المسافة، فوجدوه قريباً بشبر من القرية التي كان يقصدها للعبادة فيها)، وفي بعض الروايات يقول الحبيب: (قال الله جل وعلا: يا رياح! احمليه، ويا أرض! قربيه)، وهو الذي عاش طيلة حياته على المعصية، بل على كبيرة من الكبائر وهي جريمة القتل، وهذا الكفل عاش على الفسق والمعاصي، وهكذا كم من الناس الذين لا يعلمهم إلا خالقهم جل وعلا عاشوا على مزاولة المعاصي، وقبل أن يلقى أحدهم الله بأيام أو بساعات تاب إلى رب الأرض والسماوات؛ فقبل الله منه التوبة، وغفر له الذنوب، وستر الله عليه العيوب، وختم له بالتوحيد فقال: لا إله إلا الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)، واعلموا بأن الأمر ليس يسيراً، فلا تظنوا أن النطق بهذه الشهادة عند الاحتضار أمر هين، كلا! والله! فإن اللسان في هذا الوقت لا ينطق ولا يتكلم، بل الذي سيتكلم هو عملك، فكم من العلماء الذين ملئوا الدنيا بعلمهم، وارتفعوا على الناس بكراسيهم ومناصبهم، وكم من العلماء الذين ملئوا المساجد بالدروس والمحاضرات -أسال الله العفو والعافية- فإذا جاءته لحظة الموت، وجاء من حوله ليلقنوه الشهادة، ربما ما استطاع لسانه أن ينطق بـ (لا إله إلا الله)؛ لأنه لا ينطق في هذه اللحظات إلا الأعمال الصالحات، واقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠]، فلابد من الاستقامة على هذه الكلمة، لابد من الاستقامة على طريق الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:٣٠]، فالإنسان حين ينام على فراش الموت تأتيه الشياطين من كل مكان تريد أن تضله، وتريد أن تخرجه على غير الإيمان، فشيطان على يمينه، وشيطان على شماله، وشيطان عند رأسه، وشيطان عند قدميه، وشيطان يقول له: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، وشيطان يقول له: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وهكذا فإن كان من المؤمنين الصادقين المخلصين فيقول الله جل وعلا في حقهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:٢٧]، يتنزل عليه التثبيت والثبات {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:٢٧]، وما هو القول الثابت؟ يقول ابن عباس: إن القول الثابت هو: لا إله إلا الله، فيتنزل عليه الثبات من رب الأرض والسماوات: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]، وهكذا فإن المؤمنين الصادقين تتنزل عليهم ملائكة التثبيت والثبات، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:٣٠]، فتبشرهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].

إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد لما نام على فراش الموت أتاه ولده عبد الله ليلقنه الشهادة، ويذكره بـ (لا إله إلا الله)، ولكن الإمام كان لا يتكلم إلا بكلمة واحدة، ولا يصرخ إلا بها، ولا ينطق إلا بها، كان يقول: لا، لا، لا ولما أفاق الإمام من سكرات الموت وكرباته وهوله، سأله ولده وهو يبكي: يا أبت! أقول لك: قل: لا إله إلا الله وأنت تقول لي: لا، لا؟ فرد الإمام وقال: يا بني! أنا لا أتحدث معك، أتاني شيطانان، جلس أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري يقول لي الأول: يا أحمد! لقد فتنا في دنياك ولو فتنا اليوم ما أدركناك بعد اليوم، يا أحمد! مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، والآخر يقول: يا أحمد! مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وأنا أقول: لا، لا، بل على دين محمد صلى الله عليه وسلم، على (لا إله إلا الله) على كلمة التوحيد والإخلاص، أتدرون من هذا الذي ذهبت إليه الشياطين لتضله؟ إنه إمام أهل السنة والجماعة، إنه الإمام أحمد! فماذا يكون ظني بك وظنك بي؟! وكيف حالك وحالي؟! نسأل الله العفو والعافية؛ فالشياطين لا تتركنا في الدنيا ولا عند الموت، بل تريد أن يختم لك بالسوء والعياذ بالله! فتقول لك: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، هذا وأنت في هذه السكرات والظلمات، فالموت في حد ذاته كربة، والموت في حد ذاته فتنة، بل إن الله سماه مصيبة كما في سورة المائدة.