قضية الفهم عن الله ورسوله من أخطر وأهم القضايا، إن غاب الفهم لمراد الله وإن غاب الفهم لمراد رسول الله قد نضر ديننا غاية الضرر، وقد نفسد ونحن نريد الإصلاح، وقد نضر ونحن نريد النفع، إن غاب الفهم ربما نخطئ في قضية كبيرة من أخطر وأهم القضايا ألا وهي قضية تغيير المنكر، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز: فقه التغيير.
أخي الحبيب! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو من أشرف المهام التي ابتعث الله لها النبيين والمرسلين، بل ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولن يشعروا بذلك إلا يوم التناد، وقد أمر الله به في كثير من آيات القرآن، وفرضه على أمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل وأجمعت الأمة على وجوبه باتفاق، وجعله الله شرطاً من شروط خيرية أمة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:١١٠]، وقال جل وعلا:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:١٠٤]، وما أكثر الآيات! فنحن جميعاً الحكام والعلماء وعامة الناس الصالحين وغيرهم، نحن جميعاً نركب سفينة واحدة إن نجت نجا الجميع، وإن غرقت غرق الجميع، غرق الصالحون مع غيرهم، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال:٢٥]، وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا -قال صلى الله عليه وسلم-: فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً).
وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:(أن النبي استيقظ من نومه عندها فزعاً)، وفي لفظ:(دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي بإصبعيه السبابة والإبهام- فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، وأنا أقسم بالله لقد كثر الخبث، قال:(نعم إذا كثر الخبث).
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:(سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة.
قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه -وفي لفظ: الرجل السفيه- يتكلم في أمر العامة)، صدق المصطفى والله.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب (وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) واقع مرير.
إذاً فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى المنكرات أمام عينيه وبين يديه ثم يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، ما دام يأكل ملء بطنه وينام ملء عينه ويضحك ملء فمه، لا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).