للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الانفصام بين المنهج والواقع]

أولاً: الانفصام بين المنهج والواقع، إن المجتمع المسلم الذي شاد القرآن صرحه الشامخ، وأرسى لبناته على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان مجتمعاً فريداً، لم ولن تشهد البشرية له مثيلاً على الإطلاق، كان مجتمعاً فريداً في عقيدته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع- لقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢].

وكان مجتمعاً فريداً في عبادته، امتثالاً عملياً لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].

وكان مجتمعاً فريداً في شريعته، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥].

وكان مجتمعاً فريداً في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع الكريم- لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:٩٠].

وكان مجتمعاً فريداً في محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واتباع هديه، امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١]، وكان مجتمعاً فريداً في إقامة بنيان الأسرة المسلمة، أفراد هذه الأسرة يعيشون جميعاً بالإسلام وللإسلام، ويحمل كل أفراد هذه الأسرة هم الإسلام، فالرجل في الأسرة يعمل لدين الله، والزوجة في الأسرة تعمل لدين الله، حتى الأطفال يعملون لدين الله جل وعلا.

جاء في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمنيني وشمالي فتيان حديثا السن -أي: رأى صبيين صغيرين إلى جواره في الصف يوم بدر- فلم آمن على نفسي بمكانهما -تمنى أن يكون بين بطلين عظيمين- فغمزني أحدهم سراً من صاحبه، وقال لي: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ فقال هذا الفتى المبارك: لقد بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول عبد الرحمن: فتعجبت! فإذا الفتى الآخر يغمزني سراً من صاحبه: يا عم! يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع أنت الآخر بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل أن أقتله، أو أموت دونه، وفي لفظ: ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول: عبد الرحمن: فوالله ما سرني أن أكون بين رجلين مكانهما، فرأيت أبا جهل يجول في الناس -يعني: يأتي ويروح- فقلت: انظرا! هل تريان هذا؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.

يقول عبد الرحمن: فانقضا عليه كالصقرين، فقتلاه، وأسرع كل واحد منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! قتلت أبا جهل!! والآخر يقول: لا، بل أنا الذي قتلته!! فقال المصطفى: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.

فنظر النبي في السيفين، فرأى دماء أبي جهل على السيفين معاً، فالتفت إلى الصبيين -أستغفر الله، بل إلى البطلين، بل إلى الرجلين- وقال لهما: كلاكما قتله).

البطل الأول: هو معاذ بن عمرو بن الجموح، والبطل الثاني: هو معوذ بن عفراء، فتيان صغيران، تربى كل واحد منهما في أسرة مسلمة، حملته هم الدين!! إن الناس جميعاً -أيها الأحبة- يحملون هموماً على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، ولكن الهموم تتفاوت بين الناس جميعاً بتفاوت الهمم، والهمة رزق من الله تعالى: فمن الناس من يحمل هم الدين، ومنهم من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم أن يستمتع بامرأة جميلة حسناء في الحلال أو في الحرام سواء، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المال ولو من الحرام، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المجد والجاه والشهرة، ولو على حساب دينه.

قال الشاعر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فكل الناس -أيها الأحبة- يحملون هموماً، لكن: انظروا إلى الهموم التي يربي الآباء والأمهات عليها الأبناء في هذه الأيام، والهموم التي كان يتربى عليها أولاد سلفنا الصالح في بيوت عاشت بالإسلام وللإسلام!! أيها الأحبة! ظل هذا المجتمع الإسلامي العظيم يرفل في ثوب التوحيد الخالص، الذي كساه إياه إمام الموحدين، وقدوة المحققين صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ابتعد هذا المجتمع المسلم رويداً رويداً عن أصل عزه، ونبع شرفه، ومعين كرامته، وتجرد رويداً رويداً من ثوب التوحيد الخالص، فانكشفت سوءاته، وظهرت عوراته، وراح المجتمع المسلم يحاكي الشرق الملحد، والغرب الكافر، ترك شرع الله المحكم، وتخلى عن المنهج التربوي الإسلامي العظيم، واستبدل بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، فوقع في هذا الخلق الشائن، والانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، ففي الجانب العقدي نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثير من أفراد المجتمع الإسلامي!! وفي الجانب التعبدي نرى كثيراً من الأفراد قد صرفوا العبادة لغير الله.

وفي الجانب التشريعي وقع المنكر الأعظم الذي لم يكن يخطر ألبتة لأحد على بال، يوم نحيت شريعة الكبير المتعال، وحكم بالقوانين الوضعية الفاجرة الجائرة في الأعراض والأموال والدماء والفروج، وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة، فغرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت، وظلت وأظلت.

وفي الجانب الأخلاقي والسلوكي حدث ولا حرج! ترى انتكاسة خطيرة في الأخلاق، وترى فجوة رهيبة بين منهجنا المنير، وواقعنا المؤلم المرير.

وفي الجانب الأسري ترى استقالة تربوية -لا أقول: فردية بل جماعية- في كثير من بيوت المسلمين، استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقال كثير من الأمهات تربوياً، وظن الوالد المسكين أن وظيفته أن يقدم لأولاده الطعام والشراب، والمسكن والملبس فحسب، وظنت الأم هي الأخرى أن وظيفتها أن تغذي الأبدان فحسب، وانشغلت بالضرب في الأسواق، والبحث عن أرقى الموضات والموديلات، وأرقى العطور والملابس والثياب، وراحت الأم تحاكي المرأة في الغرب، وتحاكي المرأة في الشرق؛ فشعر كثير من أبنائنا في بيوتنا باليتم التربوي، وخرج الأولاد من البيوت ليقتاتوا قوتهم التربوي في السينما والمسرح عند أصحاب السوء: في الشارع! أو في وسائل الإعلام المدمرة! ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا هذا هو الواقع المر الأليم.