[قصة زيد بن سعنة]
أولاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
روى الطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنة وهو الحبر الكبير من أحبار اليهود قال: (ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
يقول زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات مع علي بن أبي طالب، وإذ برجل من الأعراب يقبل على النبي ويقول: يا رسول الله! إن قومي في قرية بني فلان دخلوا في الإسلام، ولكنهم دخلوا في الإسلام طمعاً، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا في الإسلام أتاهم رزقهم رغداً، وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط؛ فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت يا رسول الله! فالتفت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم إلى علي بن أبي طالب وسأله: هل عندنا شيء من المال؟ فقال علي بن أبي طالب: لا والله يا رسول الله لقد نفد المال كله.
يقول زيد بن سعنة: فدنوت من محمد صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا محمد! هل تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان -أي: في بستان بني فلان- إلى أجل معلوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، لكن لا تسم حائط بني فلان، أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل معلوم، لكن لا تسم حائط بني فلان، يقول زيد بن سعنة: فوافقت النبي على ذلك، وأعطيت النبي ثمانين مثقالاً من الذهب، فأخذها النبي كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وقال: اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال، فانطلق الأعرابي بالمال كله.
يقول زيد بن سعنة: ولم يمض غير قليل من الوقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه صلوا على جنازة لصاحب لهم، وأتى النبي عليه الصلاة والسلام إلى جدار ليجلس في ظله.
فاقترب منه زيد بن سعنة ونظر إليه بوجه غليظ، وأخذ بمجامع قميصه وردائه، وهز الحبر اليهودي رسول الله هزاً عنيفاً وهو يقول له: أد ما عليك من حق ومن دين يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا قوم مطلٌ في سداد الحقوق وأداء الديون، فالتفت إليه عمر وعينه تدور، وقال له: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى؟! والذي نفسي بيده لولا أني أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، يقول زيد بن سعنة: وأنا أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذ بالنبي ينظر إلي في سكون وهدوء، ثم التفت المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقال له: يا عمر، لقد كنت أنا وهو في حاجة إلى غير ذلك، يا عمر لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب).
فوقف زيد بن سعنة مبهوتاً مفزوعاً أمام هذه الأخلاق السامية، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، أتدرون ماذا قال صاحب الأخلاق العظيمة؟ التفت الحبيب إلى عمر رضي الله عنه وقال: يا عمر! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته، يقول زيد بن سعنة: فأخذني عمر بن الخطاب وأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر فقلت له: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال له: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك، فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال: يا عمر، ألا تعرفني؟ قال: لا.
قال: أنا زيد بن سعنة.
قال عمر: حبر اليهود؟ قال: نعم، فالتفت إليه عمر وقال: فما الذي حملك على أن تقول لرسول الله ما قلت، وعلى أن تفعل برسول الله ما فعلت؟! فقال زيد بن سعنة: والله يا ابن الخطاب ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه رسول الله حين نظرت إليه، ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال هذه النبوة، فقال له عمر: وما هما؟ قال حبر اليهود: الأولى: يسبق حلمه غضبه، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، أما وقد عرفتهما اليوم في رسول الله فأشهدك يا عمر أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
أيها الأحبة: ماذا أقول أمام هذه الأخلاق؟ وبأي لغة أعلق؟! أنا أسأل الآن وأقول: هل توجد لغة أستطيع بها أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية؟ لا ورب الكعبة! فلندع المشهد يتألق روعة وسمواً وجلالة، ولتردد معي أيها المحب للحبيب المصطفى هذه الشهادة العظيمة من خالقه جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].