للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسس التربية في القرآن الكريم]

إن للقرآن الكريم أسلوبه الفذ الفريد الخاص في وضع أسس التربية المتكاملة: تارة بالحوار، وتارة بالقصص، وتارة بالوصف، وتارة بالترهيب، وتارة بالترغيب، وتارة بالتعريض، وتارة بالوعد والوعيد، أسلوب فذ فريد للقرآن؛ لأنه كلام الرحيم الرحمن الذي خلق النفس ويعلم مكامنها، ويعلم مؤثراتها، ويعلم ما الذي يؤثر فيها، إن القرآن الكريم يخاطب أعماق الفطرة، ويستجيش الوجدان الحي، ويحرك القلوب الحية، والعقول النيرة، ويستنطق الفطر من أعماقها؛ لتوحد الله جل وعلا.

بل لقد بلغ من إعجاز القرآن الكريم، وأسلوبه الرائع الخلاب أن خاف المشركون على قلوبهم وأنفسهم من السماع إليه حتى لا يتحولوا من الشرك إلى التوحيد لله جل وعلا، بل لقد كانت وصية بعضهم لبعضهم الآخر كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:٢٦] بل لقد ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم كريم من أيام شهر رمضان المبارك في السنة الخامسة من البعثة المحمدية المباركة، إلى بيت الله الحرام في مكة -زادها الله تشريفاً- حيث جلس السادة والكبراء من المشركين، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم، وأخذ يتلو عليهم القرآن الكريم، وافتتح بسورة النجم، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، يستجيش الوجدان، ويلمس القلوب، ويحرك العواطف تحريكاً، وأنصت المشركون جميعاً لكتاب الله، وما ظنكم بقرآن الله يتلوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وأنصت المشركون جميعاً، وانشغلوا عن كل شيء لسماع القرآن كلام الرحيم الرحمن جل وعلا، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة وفيها قوارع تطير لها القلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:٥٧ - ٦٢] وخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لله، فلم يتمالك المشركون أنفسهم، وخروا سجداً لله خلف رسول الله! إي وربي خر المشركون سجداً لله خلف رسول الله! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:١٨].

ولقد روى قصة سجود المشركين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب: سجود القرآن، وعنون لهذا الباب بقوله: باب سجود المسلمين مع المشركين، وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).

إنه كلام الحق جل وعلا، بدأ القرآن بأسلوبه الفذ الفريد في تربية هذا الرعيل الأول -وانتبهوا أيها الأخيار- إن أول لبنة وضعها القرآن الكريم في هذا البناء التربوي الكامل المتكامل هي العقيدة، بدأ الإسلام أسلوبه التربوي، وركز القرآن أسلوبه التربوي بوضع لبنة العقيدة في القلوب.

لماذا؟ لأن التربية لا تقوم ابتداء على منهج لوثت فيه العقيدة، ولا شك أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى تصحيح العقيدة، فواجب على كل الدعاة الصادقين أن يبدءوا بمثل ما بدأ به القرآن لتربية الأمة المسلمة من جديد؛ لتحاكي الرعيل الأول والمجتمع الأول الذي رباه القرآن على يد أعظم مرب عرفته الدنيا، على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.