[الأنصار والوفاء بالوعد]
إن الإسلام عقيدة وشريعة، إن الإسلام معاملة وسلوك وواقع، إن الإسلام منهج حياة، ولذلك لما ربى النبي صلى الله عليه وسلم الرعيل الأول على أخلاق الإسلام ضربوا للتاريخ كله أروع المثل على صدق الوعد وعلى الوفاء بالعهد، واستطاعوا أن يضربوا لنا المثل في أن الإسلام ما أنزل إلا ليحول إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي، وإلى سلوك واقعي تطبيقي.
تعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى هذا الاجتماع المبارك، حيث جلس الأنصار الذين شرح الله صدورهم للإسلام على يد داعية الإسلام الأول مصعب بن عمير رضي الله عنه، جلس ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم ليعقدوا معه بيعة العقبة الثانية.
ولنترك أحد قادة الأنصار يحدثنا عن هذا الاجتماع التاريخي الكبير الذي حول وجه التاريخ في صراع الوثنية ضد الإسلام، لنترك كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يحدثنا والحديث بطوله رواه الإمام البيهقي، ورواه ابن إسحاق بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله والحديث رواه ابن حبان أيضاً في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
ماذا يقول كعب، يقول: (اجتمعنا في الشعب عند العقبة، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فجلسنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان ما زال على دين قومه -أي: والعباس مازال على دين الشرك ولكنه جاء لينظر في أمر ابن أخيه- يقول كعب بن مالك: فكان أول متكلمٍ هو العباس، فقال العباس بن عبد المطلب: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فإنه في عز من قومه، ومنعة في بلده، إلا أنه أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن أنتم أنجزتم له ما دعوتموه إليه فأنتم وذلك، وإن أنتم رأيتم أنفسكم أنكم خاذلوه وأنكم مسلموه فدعوه من الآن فإنه في عز من قومه ومنعة في بلده، يقول كعب بن مالك: فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت يا عباس، فتكلم أنت يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، يقول كعب: فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقرأ القرآن ودعا إلى الله جل وعلا، وبايعنا على أن نمنعه مما نمنع منه أبناءنا ونسائنا، ووعدنا الجنة) وفي رواية جابر بن عبد الله التي أشرت إليها آنفاً قال الأنصار: (علام نبايعك يا رسول الله؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا لله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا أتيت إليكم، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم).
نرجع إلى كعب بن مالك، يقول كعب: (فأقبل إليه البراء بن معرور رضي الله عنه وأخذ بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله! لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فوالله إنا لأهل الحروب وإنا لأهل الحلقة، ولسوف ترى منا ما تقر به عينك، فبايعنا يا رسول الله) وفي رواية جابر بن عبد الله، يقول: (فقاطع البراء بن معرور وهو يتكلم أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال -أي: بيننا وبين اليهود- حبالاً وإنا قاطعوها، فإن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله أترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبتسماً: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، أنا منكم وأنتم مني) وفي رواية جابر: (قام أسعد بن زرارة رضي الله عنه ليبين للأنصار خطورة هذه البيعة وخطورة هذا العهد، فلما نظر إليهم قال له الأنصار: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر: فقمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه رجلاً رجلاً ويعدنا على ذلك الجنة).
وتمضي الأيام، وهاهي الأيام تمر، تجر خلفها الشهور، وتسحب معها السنين، ويأتي أول اختبار على صدق هذا الوعد والعهد والبيعة للأنصار في غزوة بدر الكبرى، يرى النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ولا محالة فيه قتال، فيشير النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ويقول: (أشيروا علي أيها الناس، فيتكلم أبو بكر رضي الله عنه الصادق الكريم، فيحسن الصديق رضي الله عنه القول فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحسن عمر الخطاب والكلام فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم المقداد رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه).
ولكن المتكلمين أبو بكر وعمر والمقداد كانوا من المهاجرين، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يستمع إلى رأي الأنصار لأن رحى الحرب ستدور على كواهلهم وسواعدهم، فهم الكثرة الكاثرة في جيش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى الأنصار: أشيروا علي أيها الناس، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم، سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال سعد: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل يا سعد - أتدرون ماذا قال سعد الأنصاري؟ - قال سعد: يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله حيث شئت، والله لا يتخلف عنك منا رجل واحد، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله يا رسول الله) فسر النبي صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء هم الرجال، هؤلاء هم الأبطال، هؤلاء هم أهل الصدق والوفاء الذين بيضوا وجه الحنيفية، وسطروا للتاريخ كله أن هؤلاء هم تلامذة محمد بن عبد الله الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأخلاق فتحولوا من رعاة الغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، إنه صدق الوعد.
ما أحوجنا إلى أن نقف أمام هذا الدرس العظيم الكريم لنأخذ منه الدروس والعظات والعبر.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.