[هول الموقف]
إذا ما وصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم! عند أن يقفوا قياماً طويلاً! وهاهي الشمس تدنو من رءوسهم حتى لا يكون بينها وبين رءوسهم إلا كمقدار ميل! يقول الراوي: لا ندري ماذا يقصد رسول الله بالميل، أهو ميل المسافة المعروفة، أم ميل المكحلة التي تكتحل به العين؟! ورد في صحيح مسلم من حديث المقداد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل فيغرقون في عرقهم بمقدار أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه).
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦]: (يقوم الناس في رشحهم إلى أنصاف آذانهم) هل تصورت هذا المشهد؟! حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرءوس! ولك أن تتصور: البشرية كلها منذ أن خلق الله آدم، تحشر في مكان واحد على أرض واحدة، ليس للإنسان إلا أشبار يضع فيها قدميه، زحام يخنق الأنفاس، بل يكاد الخلق أن يهلكوا من حرارة أنفاسهم، ومن هذا الزحام الشديد، ومع ذلك تعلو الشمس الرءوس، وتكاد أن تصهر الجلود! وفي هذا المشهد وفي هذا الموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم والعياذ بالله.
يؤتى بجهنم للناس في أرض المحشر، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونه).
فإذا أقبلت جهنم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق زفرت وزمجرت؛ غضباً منها لغضب الله جل وعلا! فإذا رأت الأمم جهنم في أرض المحشر جثت جميع الأمم على الركب من الذل والخوف والرعب.
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨].
بل يخرج من جهنم عنق أسود مظلم يتكلم! والحديث رواه الترمذي بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت اليوم بثلاثة، وكلت بكل جبار عنيد، وبكل من جعل مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) أي: الذين كانوا ينحتون ليضاهوا برسومهم خلق الله جل جلاله.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:١٥ - ١٧] نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد.
في هذا المشهد في الزحام الرهيب، وفي الحر الشديد، وفي هذا التدافع والعري: ينادي الحق جل جلاله وسط هذا الموقف الذي يُشيّب منه الولدان، ومن هول هذا الموقف لا يتكلم أحد إلا الأنبياء ودعوة الأنبياء يومها: اللهم سلم سلم!! تذهل الأم عن رضيعها وينسى الوالد ولده، وينسى الولد والده، وتنسى الأم الرحيمة ولدها، بل وينشغل الابن عن أمه قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٣ - ٣٧].
فالكل يقول: نفسي نفسي حتى الأنبياء كما سنتعرف على ذلك إن شاء الله تعالى، لا يتكلم إلا الأنبياء ويقولون يومها: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم! مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور تذكر كل هذه المشاهد: الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس، والشمس تكاد تصهر الرءوس، والكل يتدافع، والسؤال تخافت، والكلام همس، وجلال الحي القيوم غمر النفوس والمكان بالهيبة والجلال.
في هذه اللحظات ينادي الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق في أرض المحشر أن يتقدموا، لماذا يا ترى؟! ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.