أولاً: أمة الجسد الواحد: كان العرب أمة ممزقة قبل الإسلام لا وزن لهم ولا قيمة، لو تصفحت التاريخ وقرأت عن حروب العرب؛ لوقفت على قيمة هذا الدين العظيم الذي حَوَّلَهُمْ من غثاء وقبائل متناحرة، ومن أمم متمزقة متصارعة، إلى أمة واحدة؛ لذا امتن الله عز وجل عليهم بهذه النعمة العظيمة الكبيرة فقال سبحانه وتعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران:١٠٣].
كانوا متفرقين، وكانوا على شفا حفرة تُوْدِيْ بهم إلى نار الدنيا والآخرة، بشركهم بالله جل وعلا وتَصَارُعِهِمْ وتحاربهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى التوحيد، فاستنقذهم من شرك العصبية والوثنية إلى أنوار الأُلْفَةِ والتوحيد لرب البرية جل جلاله، فأذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأقاموا للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا دولة الإسلام بناء شامخ لا يطاوله بناء، وذلك في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، يوم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ووحدت العقيدة صفوفهم، وجمعتهم على لسان وقلب رجل واحد.
فجاء المصطفى فآخى بين سلمان الفارسي وحمزة القرشي، وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي، وعلى اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأجناسهم انصهروا في بوتقة واحدة، جمعتهم آصرة العقيدة، جمعتهم الأخوة الإيمانية التي لا نظير لها في كل الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنها أُخُوَّة تعلو على إخوة النسب والعِرْقِ واللون والوطن، إنها الأُخُوِّةُ في الله.
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من المؤمنين جميعاً دوحة واحدة متشابكة الأغصان، متلاصقة الأوراق، انصهروا في بوتقة المحبة في الله، فرأيت منهم العجب العجاب، ولو لم نكن على يقين بأن ما سنذكر بعضه الآن جاء عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى لقلنا إنه من نسج الخيال؛ لأنه لا يمكن بحال أن يقع في دنيا الناس، اللهم إلا إذا كان المربي لهؤلاء الناس هو المصطفى محمد.