للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة]

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين؛ حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار.

فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فمع اللقاء الثالث عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا عن أعظم داعية عرفته الدنيا، عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد وقفنا في اللقاء الماضي وهو في الطائف تنزف قدماه دماً، ويتألم قلبه، وقد تبدد الأمل الذي ذهب إلى الطائف من أجله، وتمنى أن يجد في أهل الطائف من يمنعه ومن ينصره؛ ليبلغ دين الله ودعوة الله عز وجل.

ولكنهم فعلوا به أسوأ ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، فلقد قام إليهم وهو جائع عطشان يتألم من السير الطويل على قدميه حيث لا راحلة، ولا سيارة مكيفة ولا غير مكيفة، ذهب على قدميه إلى الطائف لا يريد جاهاً ولا مالاً، وإنما يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد والإيمان، ثم قام يطلب منهم أن يحيلوا بين مكة وبين خبر زيارته، فأبوا عليه ذلك، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم وحالته تفتت الأكباد، وتمزق القلوب الحية.

عاد وقد حنت عليه السحاب، وأشفقت لمنظره الجبال والأشجار، واستعدت الجبال الصم الرواسي للانتقام له صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فانطلقت على وجهي وأنا مهموم، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال وقال: يا رسول الله! لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة شرفها الله- لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين، أي: لفعلت) أتدرون ماذا قال ينبوع الحنان؟! أتدرون ماذا قال نهر الرحمة؟ أتدرون ماذا قال الحبيب وما زالت الدماء تنزف من قدميه؟ (قال: كلا، بل إني أرجو الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله لو كان الحبيب ممن ينتقمون لأشخاصهم ولأنفسهم لأمر ملك الجبال أن ينتقم له، فطحنت الجبال تلك الجماجم، وحطمت حجارتها تلك الرءوس الصلبة، ولسالت دماء أهل الطائف حتى يراها أهل مكة في مكة، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خرج إلى الطائف لنفسه، وما جاء لينتقم لذاته ولا لشخصه، إنما جاء ليحمل إلى الدنيا الرحمة والإيمان والسعادة، جاء إلى الطائف وفي قلبه نور يتلألأ، جاء إلى الطائف وفي قلبه أمل يشرق.

ولعل في أصلاب هؤلاء من يتنفس الإسلام، ولا يعيش إلا بالإسلام، وهو عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعاناً ولا فحاشاً، وإنما بعث رحمة مهداة، اللهم صل وسلم وزد وبارك على ينبوع الحنان، وعلى نهر الرحمة محمد بن عبد الله، يقول: (بل إني أرجو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد اطمأن قلبه، وثبت هذا النصر الغيبي الكبير الذي أمده الله به من فوق سبع سماوات، عاد ليستأنف رحلته الشاقة الطويلة في الدعوة إلى الله عز وجل.