والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط، إنما يصار إليه، إذا خلا عن الضرر قطعًا، وهاهنا ليس كذلك؛ لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة، وإذا احتمل الأمران، لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطًا.
وعن الثاني: أن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيمًا؛ ولذلك يقبح عن العبد أن يفعل كل ما يفعل سيده.
أما القرآن: فقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}[الأحزاب: ٢١] ولو كان التأسي واجبًا، لقال: عليكم، فلما قال: لكم، دل على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة الحسنة، دلى على رجحان جانب الفعل على جانب الترك، فلم يكن مباحًا.
وأم الإجماع: فهو: أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب.
وأما المعقول فهو: أن فعله عليه الصلاة والسلام: إما أن يكون راجح العدم، أو مساوي العدم، أو مرجوح العدم:
والأول باطل؛ لما ثبت أنه لا يوجد منه الذنب.
والثاني باطل ظاهرًا؛ لأن الاشتغال به عبث، والعبث مزجور عنه؛ بقوله تعالى:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا}[المؤمنون: ١١٥] فتعين الثالث، وهو أن يكون مرجوح العدم، ثم إنا لما تأملنا أفعاله، وجدنا بعضها مندوبًا، وبعضها واجبًا، والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجود، وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل، فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب.