والجواب عن دعوى الضرورة: أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه، فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه.
فإن قلت: الظلم ملائم لطبع الظالم، ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي، فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة، ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين؛ فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع.
قلت: الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما، قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه، وهو ملائم لطبع كل أحد والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب، وذلك مما يميل إليه الطبع.
وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم.