وقال: أيها الملك إني قلت لهذه الرعية: إني رسولك إليهم، فطلبوا مني دليلًا على صدقي في ذلك، وأنا أسألك أن تخالف عادتك، وتضع تاجك عن رأسك، أو تتحرك بحركة لم يجر عادتك بها، ففعل الملك ذلك عند سماع قوله، والرعية تعلم أنه سمعه في دعواه الرسالة عليه، وسؤاله ذلك منه، فإن الرعية عقيب ذلك الفعل يحصل لها العلم الضروري، بل الملك إنما فعل ذلك لإجابة دعوته، وأنه صدقه في دعواه عليه، فقد قام فعله مقام قوله:(صدق هذا في دعواه)، فهذا وجه قيام المعجزة مقام التصديق، أن الخارق قرينة تفيد في مجرى العادة القطع بصدق الرسول، وأنه لو لم يكن صادقًا لما خرق العوائد مضافًا إلى قرائن الأحوال من سجاياه الكريمة، وفرط ميله إلى الصدق بطبعه، وفرط نفوره من الكذب، وزهده في الدنيا، وبعده عن طلب الرئاسة إلى غير ذلك من القرائن الحالية التي هي وحدها تفيد العلم بصدقه، ولذلك لم يحتج الصديق- رضي الله عنه- في إيمانه غيرها، فقال له: أبعثت؟ فقال: نعم. قال: صدقت؛ لعلمه بأنه بالضرورة لا يقول إلا حقًا، وبهذه القرائن يحصل الفرق بين النبي والساحر وغيره، والقرينة قد تدل على صدق القائل، وإن لم تدل على تصديق غيره له، فإن من ادعى أنه تقدم له مرض، ورأيناه اشتد هزاله واصفراره، وضعف قواه إلى غير ذلك من هذه القرائن المفيدة للعلم قطعنا بصدقه، وإن لم يصدقه غيره، فعلمنا أن القرينة قد تفيد الصدق دون التصديق، ولما كان التصديق هو الإخبار عن الصدق توقف على كون المصدق لغيره متكلمًا، فلا يلزم الدور الذي قال: إنه يلزم من الاستدلال بالنبوة على صدق الرسل الدور، وأما الصدق فلا يلزم منه الدور؛ لأنه يثبت، سواء فرض المدعى عليه الرسالة متكلمًا صادقًا أم لا.
فإن قلت: الرسالة لا تكون إلا كلامًا، فغير المتكلم لا تتأتى منه الرسالة، فالصدق حينئذ يتوقف على الكلام على التقديرين، فيلزم الدور على التقديرين.