وأما القسمان الباقيان: فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من القسم الثاني؛ لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة؛ لأن الطرد واجب في العلل، والعكس غير واجب فيها.
النوع الثاني: أن يشرّع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه، فيعلم أنها علة الحكم، فإذا قال القائل:(يا رسول الله أفطرت) فيقول: (عليك الكفارة) فيعلم أن الكفارة وجبت؛ لأجل الإفطار.
وإنما قلنا:(إن ذلك مشعرٌ بالعلية) لأن قوله: (عليك بالكفارة) كلام يصلح أن يكون جوابًا عن ذلك السؤال، والكلام الذي يصلح أن يكون جوابًا عن ذلك السؤال، إذا ذكر عقب السؤال، فيفيد الظن بأنه إنما ذكره جوابًا عن السؤال، وإذا ذكره جوابًا عن السؤال، كان السؤال كالمعاد في الجواب، فيصير التقدير:(أفطرت؛ فاعتق، وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول.
فإن قلتم لا نزاع في أن هذا الكلام صالحٌ لأن يكون جوابًا عن ذلك السؤال؛ لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام: إذا ذُكر عقيب السؤال، حصل ظن أنه ذُكر؛ ليكون جوابًا عن ذلك السؤال؛ فإنه ربما ذكره جوابًا عن سؤال آخر، أو لغرض آخر، أو زجرًا له عن هذا السؤال؛ كما أن العبد إذا قال لسيده: (دخل فلان دارك)، فيقول له السيد: (اشتغل بشأنك، فمالك، وهذا الفضول؟! (ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم: من أنه لو لم يكن هذا الكلام جوابًا عن ذلك السؤال، لكان تأخرًا للبيان عن وقت الحاجة؛ وإنه لا يجوز؛ لاحتمال أنه- عليه الصلاة والسلام- عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذكر الجواب تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة.