فنزل على بطريق كبير من بطارقة الروم، وأقام عنده إلى حيث يستأذن له بالحضور فمكث أيّاما، واستأنس به البطريق، فخرجا ذات يوم إلى ظاهر تلك الناحية يتسايران، قال: فنظرت إلى سواد عن بعد على ساحل البحر، فسألت ذلك البطريق عنه، فقال: هو دير قديم لا يعلم بانيه، وفيه راهب تعظّمه أهل النصرانيّة كلّها، لعلمه ودينه وكبر بيته، ولى به أنسة لقدم المجاورة، وكثرة تكرارى إليه ألنمس بركته.
فلمّا علم وتحقّق حسن نيّتى وظنّى به، قال لى يوما فى خلوة من الناس: إنّى مسرّ إليك بشئ، وناصحك فى أمر آخرتك، لثقتى بعقلك وحلمك، وحسن فهمك، اعلم أنّى منذ أعوام كنت جالسا بأعلى هذا الدير، وأنا أنظر البحر وهوله، متفكّرا فى عظيم قدرة الله تعالى، وخطر ببالى أمر المسلمين، واستيلائهم على الدنيا، وانتصارهم على دين المسيح، فبينا أنا فى هذه الفكرة لم أشعر إلاّ بطائر خرج من البحر كالبختى العظيم، فرفرت على هذا الدّير حتى خشيت أن يقتلعه، ثم رمى من منقاره رأس آدمى، ثم أتبعه بيده، ثم بيده الأخرى، ثم بحشو بطنه، ثم بفخذيه ورجليه، فلمّا (٣٢٠) تكاملت الأعضاء كلّها التصقوا بقدرة الله عزّ وجلّ، وعاد آدميّا قائما على قدميه، ثم إنّ الطائر قطّعه كما كان وابتلعه قطعة قطعة، وحلّق نحو البحر.
فلمّا عاينت ذلك غبت عن الدنيا ساعة لهول ما عاينت، ولم أزل فى فكرة ذلك إلى ثانى يوم مثل ذلك الوقت الذى ظهر فيه ذلك الطائر، لم أشعر إلاّ بذلك الطائر وقد فعل بذلك الآدمى كفعلته بالأمس، ثم كان كذلك فى اليوم الثالث، وقد أنست بفعله، فصبرت عليه، حتى تكامل ذلك الآدمى، واستوى إنسيّا