وقيل لأبي نواس الحسن بن هانئ الشاعر المعروف: قد أحضر أبو عبيدة الأصمعيّ إلى الرشيد! فقال أبو نواس: أمّا أبو عبيدة فإنهم إن مكّنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأمّا الأصمعيّ فبلبل يطربهم بنغماته. وقال عمر بن شبّة؛ سمعت الأصمعيّ يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعيّ يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وقال إسحاق المصولي: لم أر الأصمعيّ يدّعي شيئا من العلم فيكون أحد أعلم به منه. وقال الربيع بن سليمان، سمعت الشافعيّ رضي الله عنه يقول: ما عبّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي.
فمن طرفه؛ حكى الأصمعيّ قال، استطفت ببعض البيوت بالبادية فسمعت صبيّة إمّا سداسية العمر أو سباعية تقول (من الرجز):
أستغفر الله لذنبي كلّه ... قبّلت إنسانا بغير حلّه
(١٠٠) شبه غزال ناعم في دلّه ... وانتصف الليل ولم أصلّه
قال، فقلت: قاتلك الله فما أفصحك من جويرية! فقالت: يا عمّ! أو بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}؟ قد جمع بين أمرين ونهيين وبشارين في آية واحدة؛ أثّمّ بعدها فصاحة؟ قال الأصمعي:
فكأنّي والله لم أسمع هذه الآية إلاّ منها فعمدت إلى ذهيب كان معي فدفعته إليها فقالت: أغد يا عمّ! كفاك الله ثلاثا: حرفة الحاذق، وحرمان المستحقّ، وكساد الحسناء. ثم قالت: كأني بك وقد حدّثت أمير المؤمنين الرشيد بهذه فعوّضك عن كلّ دينار أعطيتنيه مائة دينار. فقال الرشيد: وكم أعطيتها يا أصيمع؟ قال: عشرة دنانير يا أمير المؤمنين! فقال: قد رسمنا لك بما حكمت به الصبية. فراح الأصمعيّ بألف دينار.