فأحضر رجلا حسن الهيئة واللباس، عليه سمة فضل ووقار فسلّم فأبلغ، وتكلّم فأحسن فأعجب المأمون فقال: من (١٩٠) تكون أيّها الرجل؟ فقال: عبد من عبيد أمير المؤمنين أحمد بن أبي دؤاد! فسأله عن نسبه فانتسب. وكان أحمد متّصل النسب إلى أبي دؤاد الإيادي-وهو حارثة بن الحجّاج-الشاعر الجاهلي المقدّم ذكره في أول جزء من هذا التاريخ عند ذكرنا لشعراء الجاهلية. وكان أبو دؤاد قد مدح الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة ثم مات ولد لأبي دؤاد وهو في جوار الحارث فوداه، وحلف الحارث أنه لا يموت له ولد إلاّ وداه، ولا يذهب له مال إلاّ أخلفه فضرب العرب المثل بحسن جواره؛ فمن ذلك قول قيس بن زهير (من الوافر):
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دؤاد
ومن هذا الضرب كثير؛ وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. فلمّا انتسب القاضي أحمد بن أبي دؤاد للمأمون أثنى يحيى عليه بخير فقال: أو تعرفه؟ قال: نعم! يا أمير المؤمنين، وهو ينوب عني في بعض جهاتي. فقال المأمون: يا أحمد! هؤلاء أربعة قدور قد طبخوا فاحكم بينهم! قال: فشمّر أحمد كمّه وعمد إلى قدر المأمون من غير أن يعلمها فأكل منها بثلاث لقم وقال: زه لمن حكمك، لقد أتقن صناعتك فلله درّه! ثم عمد إلى قدر المعتصم فأكل منها لقمتين وقال:
إن صدقني حزري فهما عن يد واحدة! ثم عمد إلى قدر ابن الرومي فأكل منها لقمة واحدة وقال؛ هذه قدر طبّاخ ابن طبّاخ قد أتقن صناعتها وجرد أبزارها. ثم عمد إلى قدر القاضي يحيى فوضع لقمة في فيه ثم تفلها وقال: كأنّ طبّاخها جعل مكان بصلها خرا! قال؛ فضحك المأمون (١٩١) والمعتصم حتّى فحصا برجليهما ثم أمر المأمون أن تغسل القدور الأربع وتملأ دراهم وينعم بها عليه،