وأضرب عنه حتى تحدّث به إماء مكّة. فصعد المنبر وجلس عليه مليا لا يتكلم، والكاآبه بادية عليه، وجبينه يرشح عرقا. فقال الناس: أترونه يهاب المنطق، والله إنه لخطيب جرئ. فقال بعضهم: لعله يريد ذكر مصعب سيد العرب. ثم إنه قام فقال: الحمد لله الذى له الخلق والأمر، ملك الدنيا والآخرة {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ألا إنه لم يذلّ امرء كان الحق معه، وإن كان فردا، ولم يعزّ أحد (١١٦) من الباطل أولياء وإن كان الناس معه طرّا، أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا وأساءنا وسرّنا. أتانا قتل مصعب بن الزبير رحمه الله. فأمّا الذى أحزننا من ذلك فإنّ لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند فراق حميمه. ثم يرعوى ذو الرأى والدين والحجى والنهى إلى جميل الصبر وكريم العزاء.
وأما الذى أسرّنا من ذلك فقد علمنا أنّ قتله شهادة وأنّ الله عز وجل فاعل ذلك لنا وله خيرة، إنّ أهل العراق أهل غدر وشقاق، أسلموه وباعوه بأقلّ ثمن وأخسّه. فقتل وإن قتل فمه قد قتل أبوه وعمه، وهما من الخيار الصالحين، إنّا والله ما نموت حبجا، ما نموت إلا قتلا قعصا قعصا بأطراف الرماح وظباة السيوف، ليس كما نموت بنو مروان فى حجالهم،