فيها تغيّر المنصور على أبي مسلم الخراساني لأسباب صدرت منه بعد موت السفّاح فعزم على قتله، وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره والاستشارة فقال يوما لسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ قال:{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} فقال: حسبك يا ابن قتيبة! لقد أودعتها أذنا واعية. ولم يزل المنصور يخدعه، وينصب له الحبائل حتّى أحضره إليه. وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها، وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلاد الروم.
وكان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى ولم يخطر بقلب أبي مسلم أنها موضع قتله بل راح وهمه إلى بلاد الروم؛ فلمّا دخل على المنصور رحّب به وأمره بالانصراف إلى مخيّمه، وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل. ثم إنّ أبا مسلم ركب إليه مرارا فأظهر له أنه متمرّض فلازمه ثم جاءه فقيل إنه يصلّي وإنه يتوضّأ للصلاة؛ فجلس تحت الرواق وقد رتّب له المنصور جماعة بقفون وراء الستر الذي خلف أبي مسلم فإذا عاتبه لا يظهرون حتّى يضرب يدا على يد فحينئذ يظهرون فيضربون عنقه. ثم جلس المنصور وقد تدرّع من تحت ثيابه خشية من أبي مسلم.
ودخل عليه أبو مسلم فسلّم وسأل فردّ عليه بخير ثم آذنه في الجلوس وحادثه ساعة، ثم عاتبه وقال: فعلت وفعلت! فقال أبو مسلم: ما يقال هذا لمثلي وقد بلغ من سعيي واجتهادي ومناصحتي وما كان مني! فقال له المنصور: يا ابن الخبيثة! إنما فعلت ذلك بجدّنا وحظّنا، ولو أنّ مكانك أمة سوداء لعملت ما عملت أنت! ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك قبلي؟ ألست الكاتب تخطب عمّتي آسية، وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عبّاس؟! لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقى