أما ألاّ يكونا قد نصحا في عظيم الملك وجلالة الخلافة وما جرت عليه السياسة فقد فعلا. وقد بلغا ما بلغه ذو الرأي (١٦١) السديد؛ ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلاّ من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا! فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلا يا أمير المؤمنين إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام. ثم قال: وإن كان قد بلّغني جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه. ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب، وحقّ الأبوّة بعد الأب. فقال المأمون: يا إبراهيم! لقد حبّب إليّ العفو حتّى خفت أن لا أؤجر عليه! أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذّة لتقربوا إلينا بالجرائم! لا تثريب عليك يغفر الله لك. ولو لم يكن في حقّ نسبك وسببك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أمّلت من حسن تنصّلك ولطف توصّلك. ثم أمر بردّ ضياعه وأمواله وأملاكه.
فقال إبراهيم (من البسيط):
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتّى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تهبها كنت لم تلم
وقد كان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعبّاس ولد المأمون ألطف لطلب الرضا ودفع المكروه واستمالتهما إلى المعاطفة عليه من الإزراء في رأيهما. وكان المأمون قد استشار أيضا في قتل إبراهيم أحمد بن أبي خالد الأحول فقال: إن قتلته فلك نظراء، وإن عفوت عنه فلا نظير لك! وكان إبراهيم إذا خلا يقول: والله ما عفا عني لرحم ولا محبّة ولكن قامت له سوق