ثم نزل السلطان صلاح الدين بجيوشه، والنصر قد حفّه، والملائكة ترفرف بأجنحتها عليه، فى العشر الأول من شهر رجب الفرد من هذه السنة. ونصب عليها المناجنيق والعرادات، ووقع الزحف والقتال، واقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد بمثله من قبله. فلما تعين للفرنج قلة النجاح، وأن المسلمين مستظهرين بالنصر والفلاح، وأن لا بد أن يكون عوض ناقوسهم «حىّ على الصلاة حىّ على الفلاح»، وأن أمائر النصر قد لاحت، وروائح الفتح قد فاحت، أجمعوا رأيهم فى طلب الأمان، ونفذوا بذلك رسولا إلى السلطان صلاح الدين، فامتنع من ذلك. وكان الفرنج لما ملكوا القدس الشريف من المسلمين قتلوا جميع من كان فيه من المسلمين، ولم يبقوا على رجل منهم، وكان ذلك فى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ونحروا أولاد المسلمين ونساءهم، ولم يبقوا فى حق المسلمين مجهودا من كل شر. فقال السلطان صلاح الدين:«ما نفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله لما ملكتموه». فأيقن الفرنج بالهلاك، فاجتمعوا وضربوا بينهم رأيا أجمعوا عليه. ثم إن الباب ابن بارزان سيّر طلب من السلطان أمانا لنفسه، وطلب الحضور بين يدى السلطان، فأنعم له بذلك، وأحضره، وأكرمه، وأجلسه بين يديه.
فلما رأى الملعون إكرام السلطان له، طمّعته نفسه فى طلب الأمان لأهل الحصن، فصعب على السلطان ذلك، وقال:«ما بقى أمان لا لك ولا لهم-ونهره- ولا عدت أفعل بكم جميعكم إلا كما فعلتموه بأهله عند فتحكم له». فقال الباب:«حفظ الله السلطان، عندى جواب إن أمنتنى من العطب ذكرته بين يديك». فقال:«قل وأنت آمن». قال:«إن السلطان يعلم أن فى هذا الحصن خلق عظيم. وإنا لا نطلب الأمان خوفا من الموت، فإن الموت لنا فى هذه الأرض المقدسة خير من الحياة. وإنما شفقة منا على الأطفال والعيال. وقد اتفقنا على رأى، فعن إذن السلطان أقوله». قال: