«قل». قال:«يعلم السلطان-حفظه الله-إن اجتمع فى هذا الحصن من الفرسان والأبطال ما لم يجتمع فى غيره، وأنهم لا يفرون من الموت، ولا يرغبون فى الحياة.
وأنا إذا حققنا الموت والله والله والله-كذا يحلف الملعون-لنقتلن كل أسير عندنا من المسلمين، ويكون ذلك فى ذمة السلطان. ثم نقتل بعد ذلك أولادنا ونساءنا، ونحرق جميع أموالنا وأمتعتنا، ولا نترك لنا درهم ولا دينار، ولا ندعكم تأسروا منا رجلا واحدا، ولا صبى واحد، ولا امرأة واحدة. وإذا فرغنا من ذلك أحرقنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من الأماكن الشريفة عندكم. ولا نترك لنا دابة ولا مركوبا إلا أتلفناه. ثم نخرج إليكم عن يد واحدة، فنقاتلكم قتال الموت، وهو من يموت كريما، فلا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله. ولا نزال كذلك حتى نموت عن آخرنا، أو يفعل الله فينا حكمه. وأما قول السلطان إن الذين أخذوا القدس من الفرنج من قديم فعلوا ما فعلوا بالإسلام، فالقاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، لهم إله يختصمون بين يديه. ولا يحل للسلطان أن يأخذنا نحن بذنوب غيرنا ممن سلف. وإن الذين كانوا فيه من المسلمين لو صبروا لكان خيرا لهم. وأما نحن فكما أنهيت من الحال بين يدى السلطان حفظه الله». فأمر السلطان صلاح الدين بخيمة فضربت له، وأنزل فيها، ثم طلب أكابر دولته، واستشارهم فيما قاله الباب، فقالوا:«بل الرأى أن يعطيهم السلطان الأمان، فهو خير مما ذكروه». فأمنهم السلطان، وتسلم البيت المقدس يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر رجب من هذه السنة.
وكان يوما مشهودا. ودخل السلطان صلاح الدين إلى الصخرة الشريفة المقدسة وهو فى غاية الفرح والسرور، إذ جعله الله تعالى فى هذا الفتح ثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وسيرت البشائر إلى سائر البلاد الإسلامية. وفى ذلك اليوم طلع القاضى محيى الدين بن القاضى زكى الدين، وخطب.