فلما حضروا الملوك من الفرنج-خذلهم الله تعالى-بين يدى السلطان الملك الكامل، أقعدهم بين يديه، بعد ما جلس فى دست مملكته، وأوقف الملوك إخوته بين يديه، وفى خدمته عن يمينه ويساره. فنظر الفرنج ناموسا عظيما، وهيبة وافرة، وجلله الله تعالى بالسكينة والوقار. ثم إنهم أنفذوا قسوسهم ورهبانهم، وسلموا المسلمين الثغر على رغم منهم.
وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر من شهر رجب الفرد من هذه السنة. وقيل تاسع الشهر، والله أعلم. وتسلم المسلمون الثغر فى ذلك اليوم، بعد أذان الظهر.
فما استقرت الأحوال فى تسليمها إلا بعد أذان العصر، حتى وصلت للفرنج ألف مركب موسوقة، رجال وعدد وسلاح ومأكول، فلو علموا الملاعين بذلك، لما سلموا، لكن كانت إرادة الله عز وجل أغلب، وقدرته أعجب.
وكانت الفرنج قد حصنوا دمياط تحصينا عظيما، ثم عادت كل رهائن إلى أهلها.
ورسم السلطان بمبايعتهم. وكان يحمل إليهم فى كل يوم خمسين ألف رغيف من الخبز، ومائتى إردب شعير. ثم توجهوا إلى بلادهم، قيل فى بقية شهر رجب، وقيل استهلوا شعبان، وسافروا.
ولما توجهوا، واطمأنت نفوس الملوك الإسلامية، وردت بشائر السّادة الفضلاء بالتهانى فى قصائدهم المبدعة، ذوو الألفاظ المخترعة. فمن ذلك قصيدة الشيخ شرف الدين ابن عنين، التى أولها يقول:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنّا ... إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا
غداة لقينا دون دمياط جحفلا ... من الرّوم لا يحصى يقينا ولا ظنّا
قد اتفقوا رأيا وعزما وهمة ... ودينا، وإن كانوا قد اختلفوا لسنا