الصين الأعلى من جهة مشرق الشمس، سمت علوه فى الجو أربع فراسخ، صاعدا فى فلك الهوى، حجرا أسودا أصمّا، ليس به نبات. وأن من حكمة الله جل وعزّ، التى لا تدرك لها غاية، ولا يحصر لها نهاية، جعله حاجزا للبحر الأسود المحيط، وحاجزا لعين الشمس فى أول طلوعها، فإنها تطلع من ذلك البحر من غامض علمه، الذى لا يعلمه سواه، فيحجبها هذا الجبل أن تدرك الأرض فى أول طلوعها، ويمنع حرارتها فى مبتدأ طلوعها؛ لطف من الله تعالى، وتدبير من الحكمة الإلهية.
فلو أدركت الأرض فى أول مبتدأ إشراقها، ما تركت عليها من دابة، ولا نبتت فيها خضراء. وليس تدرك الأرض إلا بعد ما تصير فى اثنى عشر دقيقة من سمت رأس المشرق، فعند ذلك تخف حرارتها، لارتفاعها، ويدرك بها الانتفاع. واسم هذا الجبل باللغة التركية قراطاغ، تفسير ذلك الجبل الأسود. ثم إن هذا الجبل تتفجر منه-من سفحه الموازى إلى جهة المغرب-عيون ماء عذبة، أحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، وأعطر من المسك. تفرش تلك العيون فى بحيرة مسافة دورها سبعون فرسخا كاملا، يجرى منها نهر فى طول سفح ذلك الجبل، مسافة مائة وثمانين فرسخا. قد بنى فى وسط هذا المجرى مدينتان عظيمتان ذاتا أسوار دائرة، بحجارة سود، ونحتا ذكر فى أنثى، وأنثى فى ذكر، لا تكاد تبين مداخله إلا للمتأمل الحاذق. دور كل سور سبعة عشر فرسخا كاملا، لكل مدينة أربعون بابا من الحديد الصينى، كالفضة المحلية. على كل باب برج مشيد من تلك البناية. وذلك النهر يجرى فى تلك المدينتين. وبين المدينة والمدينة مسافة سبع عشر فراسخ. وقد صنع ذلك النهر بمقاسم قد رتبت، وتدبير قد أحكم، حتى ليس يخلو منه منزل من منازل تلك المدن. ثم يخرج وينقسم عدة أنهر إلى سائر بقاع تلك الأراضى، وعليه