للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال الملك: لست ممّن يشكّ فى عقلك وفضلك، وعلمك وحلمك، لكن ما السبب فى انقصاعك عن مقامنا، وأنت من أجلّ حكّامنا، ومنزلتك عندنا عليّة، ومحبّتنا فيك أزليّة، فلو كنت بأبوابنا لم يكن أحد أقرب منك إلينا، وكنت آخر خارج من عندنا، وأوّل داخل علينا!

فقال حاذق أيّها الملك الفاضل، والسلطان العادل، إنّ مثل أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم سقطوا منه فكان أبعدهم فى المرقى أقربهم من التلف، ومثل السلطان كالجبل لصعب الذى فيه كلّ ثمرة طيّبة وكلّ أفعاء (١) قاتلة، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه شدّ، ومن تحسّى مرقة السلطان احترقت شفتاه ولو بعد حين، (٣١٩) وأشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا، ولا يدك الغنى بالسلطان إلاّ نفس حافية وجسم تعب ودين مثلم، وقد قيل: لا يلتبس بالسلطان فى وقت اضطراب الأمور عليه فإنّ البحر لا يكاد يسلم راكبه فى حال سكونه فكيف فى حال اضطراب أمواجه، وقد قيل: ليكن السلطان عندك لنار لا تدنو منها إلاّ عند الحاجة إليها، فإن اقتبست منها فعلى حذر، ولولا وثاقى بفضل الملك وعلمه، وجودة عفوه، وسعة حلمه، لما تجاسرت بموعظة، ولا تفوهت بكلمة مومضه.

فقال الملك ليس عليك أيّها القاضى الفاضل من بأس، وكلامك محمولا على الرأس، لتحقّقى مقلك ورشدك، ودينك وزهدك، وإنّى الآن مسائلك عن ما كان يختلج بباطنى ولم أجد له شارح، ولم أكن لأحد غيرك به بائح إذ أنت ربّ كلّ مسألة وكاشف كلّ معظلة. (٢)

فقال حاذق سل أيّها الملك تجاب، بمعونة من إذا دعى أجاب!


(١) أقعاء: أى
(٢) معظلة: معصلة