للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فتقدّمت وأكلت، وهى تلقمنى من أطايب تلك الأطعمة، وأنا قد ذهلت، لما قد جمع الله فيها من ساير الفنون الحسان. ثم رفعت الموايد، فقالت:

هل لك (٣)، أبا عبد الله، فيما نكسر به زفر هذا الطعام؟ -فقلت: جعلت فداك، أى والله! -قال: فأحضرت أوانى المشروب، لم أرا مثلهنّ إلاّ عند المأمون. ثمّ شربت وأسقتنى. ثم قالت: أبا عبد الله، هل لك أن تسمع على هذا الشراب شيئا (٦) من تلحين إسحق بن إبراهيم الموصلىّ؟ - فقلت: يا ستّ، ومن لى بذا؟ -قال: فأحضرت عودا (٧) من عود يستغرق الوصف فى نعته. ثم أصلحته وضمّته ولعبت به استبداآت تحيّر العقول. قال إسحق: فخيّل لى أنّى فى الجنّة، وكدت أصيح طربا. ثمّ مسكت نفسى وكان بين يدينا فى جملة الحضرة زعفران رطب. فاستفتحت تنشد وتقول <من البسيط>:

اشرب على الزعفران الرطب متّكئا ... وانعم نعمت بطول اللهو والطرب

فحرمة الكأس بين الناس واجبة ... كحرمة الودّ والأرحام والنسب

قال إسحق: فخيّل لى والله أنّ المكان يرقص بجوانبه. ثمّ أمسكت وقالت: أبا عبد الله، هذا الشعر لأحمد بن هاشم، وقد أهدى زعفرانا لإسحق، حيّا الله إسحق! -فقلت: يا ستّ، فما كان من جواب إسحق إليه؟ - فقالت: وما كان قال؟ -فأنشدتها <من البسيط>:

اذكر أبا جعفر حقّا أمتّ به ... إنّى وإيّاك مشغوفان بالأدب

وإنّنا قد رضعنا الكأس درّتها ... والكأس حرمتها أولى من النسب


(٣) هل لك: هلك
(٦) شيئا: شى
(٧) عودا: عود