ومن الطرائف أنّه أخرجك غبيّا {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»}(١) إذ لو خرجت عاقلا لرأيت من أطمّ المصائب تقليبك فى الخرق والعصائب، ثم سلّط البكاء عليك فى حال طفولتك لينشف به رطوبات الرأس ويحصل فى ضمنه التقاضى بالقوت لرحمة الأمّ بك.
انظر إلى الدماغ كيف تكاثفت عليه الحجب لتمسكه فى مكانه وتصونه من أذى يعرض (١٩) ثم أطبقت عليه الجمجمة لتقيّة حدّ صدمة، ثم حللت بالشعر ليستر الرأس من فرط حرّ أو برد. ثم جعل فيه آلة الذكر والنسيان، وكما أنّ الذكر نعمة فكذلك النسيان إذ لولاه ما سلى فقد ولا مات حقد.
تأمّل خلق البواعث من البواطن لتدبير مصلحة البقاء فمن المتعلّق بالقوت سبع قوى: الأولى تطلب الغذاء والثانية تجتذبه إلى الكبد والثالثة تمسكه لها حتى تطحنه والرابعة تسعى جهدها لتهضمه والخامسة تميّز صفوه من كدره والسادسة تقسم الصافى على الأعضاء بمقدار حاجتها إذ لو بعثت إلى الخدّ ما تبغيه إلى الفخذ صار بمقدارها، والسابعة تدفع تفله، ومن العجيب ستر مكان منفذ التفل وجعله فى غامض البطن كما يجعل موضع التخلّى فى أستر مكان البيت، ثم لمّا افتقرت الأبدان إلى الهواء بتّه فى الفضاء لتقتضب منه النفوس الأنفاس وترقم فيه الأصوات الجوانح كما ترقم فى القرطاس.
ثم انظر إلى آلة النطق ترى مخرج الصوت كالمزمار الكبير والحنجرة كقصبة المزمار والريّة كالزقّ والعضلات التى تقبض الريّة لتخرج الصوت من الحنجرة كالأ كفّ التى تقبض على الزقّ كى يخرج الريح فى المزمار، والشفتان التى تصوغ الصوت حروما ونفعا كالأصابع والأسنان التى مختلف على فم المزمار فتصوغ صفيره