قال الفقيه الهكارى: إن السلطان لما رد على الفرنج، لم يكن معه من الناس ما يلحق الألفين فارس، وكان الفرنج فى أربعمائة ألف أو يزيدون. ولقد ذكر جماعة من المسلمين الكبار، ممن كان مع السلطان عند رجوعه على الفرنج؛ منهم الأمير سيف الدين غازى، وعز الدين القيمرى، وحسام الدين المهرانى المعروف بابن كردم قالوا وحلفوا-وهم أمناء القول صادقين اللهجة-أن كل واحد ممن كان مع السلطان قتل من الفرنج الثلاثين والأربعين والخمسين وأكثر، وأن الواحد منا كان إذا قرب مع مطلوبه من خيالة الفرنج ويرفع يده بسيفه ويريد ضرب عنقه ينظر إلى رأسه وقد طارت عن بدنه من قبل أن يصل إليه السيف. وهذا تأييد من الله عز وجل، ومما يدل على صحة القول أن الملائكة تقاتل مع الإسلام.
قال: ولم يزل المسلمون فى أكتاف المشركين إلى أن تحصنوا بالأسوار التى كانوا صنعوها لهم، وعادوا يقاتلون من ورائها، فعند ذلك قال السلطان صلاح الدين:
«الحمد لله الذى نصرنا حتى عادوا متحصنين بالأسوار». ثم رجع إلى دهليزه ومخيمه، ووقف أصحابه بين يديه وهم بالدماء مخضبين، فرحين بما من الله عز وجل عليهم، وبما يسره من نصرهم، وتذاكروا من استشهد منهم، وأخرجوهم من بين قتلى الفرنج، وصلوا عليهم، وواروهم بدمائهم التراب. ثم أمر السلطان بالانتقال من تلك المنزلة إلى منزلة تعرف بالخروبة، وكان ليس برأى جيد، فلو كان أقام مع مشيئة الله -عز وجل-لكان أصلح. وحسب السلطان حساب أن جيشه ضعف حاله، لما نهب لهم عند هزيمتهم، وأنهم تشتتوا فى البلاد. وخشى لأن تكبسهم الفرنج، فلا تقوم لهم بعدها قائمة، فتحول لهذا السبب، ليجتمع إليه العساكر ويعود المنهزم، ويتكامل الجيش.
وكان ملك الفرنج الكبير يسمى الأنكتير مريضا على حظه، واشتغل الفرنج بمرضه، واشتغل السلطان صلاح الدين بتدبير أحوال جيوشه. هذا، والرسل تتردد منهم طول بقية هذه السنة.