وشربوا من نبيذهم، وغنّوهم بأصناف الملاهي، وسألوهم، فأخبروهم أنّهم ضالّون عن الطريق. فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم، ليس ببعيد منكم؛ فإن أحببتكم <أن> تتوجّهوا نفّذنا معكم من يدلّكم، وإن أحببتم الإقامة عندنا، فعلى الرحب والسعة. فسرّوا (١٠٧) بقولهم سرورا كثيرا، وأجمعوا على المقام عندهم، لما رأوا من كثرة الخير عندهم وأجمع من كان له أهل أو ولد أن يتوجّه فيحضر بأهله وولده ويأتوا عندهم على أحسن مبيت وأهناه.
فلمّا كان من الغد، انتبهوا فوجدوا أنفسهم في مدينة ليس فيها أنيس، وقد تشعتث حصنها ودورها، إلاّ أنّ حولها نخلا، وقد تساقط ثمره وانكدس حولها. قالوا: فلحقنا من الخوف ما لحقنا بالأمس وأزيد؛ وخرجوا منها هاربين متوجّمين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها. وإنّا لنجد بقيّة رائحة الشراب معنا، ومعاني الخمار فينا ظاهر. فلم نزل نسير يومنا أجمع، وليس بنا جوع ولا عطش، حتّى إذا كان المساء، وافينا راعيا يرعا غنما، فسألناه عن العمارة والطريق، فأوقفنا عليه. وإذا بنقّار من المطر، فشربنا منه وبتنا عليه. فإذا نحن في خلاف موضعنا الذي كنّا فيه، وإذا بالعمارة والناس. وما سرنا إلاّ بعض يومنا حتّى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد. فكنّا نحدّث الناس، ولا يقبلوا منا، ومنهم من يصدّق ويتعجّب لذلك.
وهذه مدائن القوم الداخلة؛ ربّما غلب على سكّانها الجنّ. ومنها ما هو مستتر عن العيون، والله أعلم.