[وفاته]
بَعْدَ أَنْ عَزلَ ابْنُ حَجَرٍ نَفْسَهُ مِنْ مَنْصبِ قاضي القُضاةِ، ولَازَمَ التَصنيفَ والتَأْليفَ ومَجَالِسَ الإِملاءِ، ابْتَدأَ بِهِ المَرَضُ سَنَةَ (٨٥٣ هـ)، فَتَغيرَ مِزَاجُهُ لِثقلِهِ عَليهِ وأَصْبحَ ضَعيفَ الحَركةِ، واستَمرَ مَكتُومًا، ولَا يَعلَمُ بِهِ أَحدٌ حَتَّى اشتدَ بِهِ الوَعكُ وتَضررَ بِالكِتمانِ وصَارَ يَحسُ شَيئًا ثَقِيلًا عَلَى مِعْدَتِهِ، فَتَرَدَدَ إِليهِ الأطَبَاءُ، وهرَعَ النَاسُ إِليهِ لِعِيَادَتِهِ والسَّلامِ علَيهِ مِنْ أُمراءٍ وقُضاةٍ وعُلمَاء وطَلَبةٍ وغيرِهم، حتى كَانَت لَيْلَةُ السبتِ المُسْفِرَةِ عَنْ الثَامِنِ والعِشْرِينَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ وبَعْدَ العِشَاءِ بِنَحْوِ سَاعَتَينِ، وقَدْ جَلَسَ مِنْ حَولِهِ سِبْطُهُ وبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقْرأُونَ سَوْرَةَ (يس) مَرة ويُعِيدُون أُخْرَى، فَوصَلُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ (١) - حَتَّى فَاضَت رُوحُهُ إِلَى بَارِئهَا. وشَيعَتْهُ القَاهِرةُ كُلُهَا فِي مَوكِبٍ مِهيب، بَاكِيةً حَزِينَةً.
وَلَمَّا وَصَلت جَنَازتُه المُصلَّى أَمْطَرتِ السمَاءُ عَلَى نَعْشِهِ - ولَمْ يَكنْ زَمانُ مَطرٍ - فَيمَا يَرِدُ بِهِ السَّيوطِيُّ فيقولُ: "حَدَّثَنِي الشَّهَابُ المَنْصُورِيُّ شَاعِرُ العَصْرِ أَنَّهُ حَضَرَ جَنَازَتَهُ، فَأَمْطَرَتِ السماءُ عَلَى نَفْسِهِ وقَدْ قُرِّبَ إِلَى المُصَلَّى، ولَمْ يَكنْ زَمَانُ مَطرٍ. قَالَ: فَأَنْشَدتُ فِي ذلِكَ الوَقْتِ:
قَدْ بَكَتِ السُّحْبُ عَلَى … قاضي القضاةِ بالمَطَرْ
وانْهدَمَ الرُّكْنُ الّذِي … كَانَ مُشَيَّدًا مِنْ حَجَرْ
(١) سورة: يس، الآية: ١ - ٥٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute