لأنَّه يَملِكُهم وما يَمْلِكونَ، فيجبُ إن أمَرَهُم أن يأتَمِرُوا، وإنْ نَهَاهُم أن يَنتَهُوا، ولو لم يُعَاهِدْهُمُ ابتداءً على كلِّ أمرٍ ونهيٍ بخصوصِه، فبمجرَّدِ الأمرِ والنهي يجبُ عليهم الوفاءُ؛ وذلك أن مالكَ الشيء يَملِكُ ما دونَهُ؛ فإنَّ السيِّدَ يَملِكُ عَبدَهُ وأمَتَه، ومِن مُقتضى مِلْكِهِ طاعتُهُمْ له عندَ الأمرِ أو النهي.
وأولُ العهودِ والعقودِ التي يجبُ الوفاءُ بها: توحيدًا للهِ وعدمُ الإشراكِ معه في عبادتِهِ شيئًا، وهو العهدُ الذي أخَذَهُ على جميع الأُمَمِ؛ كما في قولِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)﴾ [يس: ٦٠]، وقولِهِ في البقرةِ والرعدِ: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧]، ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [الرعد: ٢٥]، ومَدَحَ المُؤمنِينَ بعهدهِ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)﴾ [الرعد: ٢٠].
ويدخُل في ذلك: امتثالُ كلِّ أمرٍ واجتابُ كلِّ نهيٍ، ولو أنشأهُ الإنسانُ على نفسِه كالوفاءِ بالنَّذْرِ واليمينِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك عقدٌ بينَ العبدِ وربِّه.
وهذا النوعُ هو المقصودُ الأوَّلُ بالخطابِ في الآية، والنوعُ الثاني التالي داخِلٌ فيه تَبَعًا؛ لأنَّ مُقتضى حقِّ اللهِ: العدلُ مع خَلْقِه، وعدَمُ ظُلْمِهم؛ كما روى عليُّ بن أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قوله، ﴿أوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ يعني: "ما أَحَلَّ وما حَرَّمَ، وما فرَضَ، وما حَدَّ في القرآنِ كلِّه؛ فلا تَغدِرُوا ولا تَنكُثُوا، ثمَّ شدَّدَ ذلك، فقال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧]، إلى قولِهِ: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: ٢٥](١).