على تكفيرِ حاكِمٍ بعينه، فلم يأمُرُوا المحكومِينَ بالهجرةِ مِن بُلدانِهم، وإنَّما يُنظَرُ في عزلِهِ وقدرتهم عليه، وقد حكمَ العُبَيدِيُّون مصرَ والقَيرَوانَ وغيرَها مِن المَغْرِبٍ ولم يأمُرِ العلماءُ أهلَها بالهجرةِ منها، ولم يُسَمِّها أحدٌ منهم بلدَ كفرٍ؛ لأنَّ أهلَها مُسلِمونَ يُظهِرونَ شعائرَ الدين.
ومِثلُ ذلك في ولاية البويهِيِّينَ للعراق، وكان فيها علماءُ وأَجرَوْا حُكمَ بلدِهم بحكْمِ أهلِها وما يَظْهَرُ مِن شعائرِ دِينِهم، وكان علماءُ المغربِ في القيروانِ يُنكِرونَ على أبي جعفرٍ الداوُودِي لَما أنكرَ عليهم سُكناهُم تحتَ مملَكَةِ بني عُبَيدٍ، فقالُوا له:"اسكُتْ لا شيخَ لكَ! " - لأنَّه لم يَتفقَّه في غالبِ أمرِهِ على شيخٍ - فإِنَّهم رأَوا أن بقاءَهُم تَثبِيتٌ لأهلِها على الإسلامِ والسُّنَّةِ، ولو خَرَجُوا منها لزَاغَ الناس؛ فثباتُ العالم ثباتٌ للعامةِ.
وفي الآيةِ: تنبيهٌ على توكُّلِ الضعيفِ على اللهِ وطلبِ المَدَدِ والعونِ منه؛ وذلك في قولِ المستضعفِينَ: ﴿وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾؛ فهم سألوا المُعِينَ والنصِيرَ مِن اللهِ لا مِن غيرِه، وإذا اجتمَعَ تمامُ الضعفِ مع تمامِ التوكُّلِ، جاء النصرُ وتحقَّقَتِ الإجابةُ.
فكاكُ الأسيرِ:
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على وجوب فَكَاكِ الأسْرَى مِن المُسلِمِينَ عندَ المُشرِكِينَ ما قَدَرَ المُسلِمُونَ على ذلكَ، والأسيرُ أحَقُّ بالزكاةِ مِن الفقيرِ ومُقدَّمٌ عليه؛ لأنَّ الأسيرَ يخشى على نفِسهِ ودِينِه، والفقيرَ يَخشى على نفسِهِ فقطْ؛ ولذا قال ﷺ:(فُكُّوا العَانِيَ - يَعنِي: الأسِيرَ - وَأَطعِمُوا الجَائِعَ، وَعودُوا المَرِيضَ)؛ رواهُ البخاري (١).
وفكاكُ المرأةِ الأسيرةِ أوجبُ مِن الرجلِ؛ لأنَّ الرجلَ يُخشى على دِينه ونفسِه، والمرأةَ يُخشى على دِينِها ونفسِها وعِرضِها، وكلما عَظُمَ الأثرُ على الأسيرِ في نفسِهِ وعلى مَن خَلْفَه، ففَكَاكُهُ أوجب وأعظَمُ.