فلو خرَجَ المنافقونَ مع النبيِّ إلى القتال، لَأَوْقَعُوا في صفِّه الفتنةَ، وفرَّقُوا جَمْعَهُ، وتَوَلَّوْا عندَ اللقاء، والفتنةُ حينئذٍ أشَدُّ، وإذا خرَجَ المنافقونَ مِن خيرِ الصفوفِ، وهم الصحابةُ، وتحتَ أعظَمِ أميرِ جيشٍ، وهو النبيُّ ﷺ، فغيرُهُمْ مِن بابِ أَوْلى، وقد تفاءَلَ النبيُّ بخروجِ المنافِقِينَ، ورآهُ نَفيَ خَبَثٍ مِن الصَّفِّ لا إضعافًا له؛ فإنَّ المنافِقِينَ يَوَدُّونَ لو انشغَلَ بهم المؤمنونَ وعظَّمُوا أَمْرَهم ومنزلتَهُمْ وشَوْكَتَهم؛ فإنَّ في ذلك التعظيمِ كسرًا لنفوسِ أوساطِ المؤمنينَ وإضعافًا لهم.
وقولُهُ تعالى: ﴿أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾؛ يعني: رَدَّهم إلى ما هم فيه بسببِ ذنوبِهِمْ، وخاصَّةً سوءَ نيَّاتِهم؛ فالذنوبُ تَحرِمُ العبدَ التوفيقَ للعملِ الصالح، وأعظَمُ الذنوبِ الذنوبُ الباطِنةُ، سواءٌ كان مِن النيَّاتِ السيِّئة، أو ما يفعلُهُ العبدُ مِن ذنوبِ الخَلَوَاتِ خلافَ ما يُبْدِيهِ مِن طاعةٍ في العلانيَةِ.
خطَرُ المنافِقِ والمرتدِّ:
وفي قولِهِ تعالى: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ إشارةٌ إلى خطرِ النِّفاقِ، وأنَّ المُرْتَدَّ إلى الضلالةِ بعدَ الهُدَى، والمُنتكِسَ عن الحقِّ بعدَ معرِفَتِه: قلَّما يَرجِعُ إليه؛ وذلك أنَّ اللهَ ذكَرَ إضلالَهُ له، وكأنَّه قطَعَ الرجاءَ في هدايتِه؛ وذلك لأسبابٍ:
أعظمُهَا: أنَّ الإيمانَ له حلاوةٌ، ومَن ذاقَها ما ترَكَها، ومَن دخَلَ الإسلامَ وحامَ في أطرافِهِ ولم يأخُذْهُ اليقينُ وحلاوتُهُ، جذَبَتْهُ الشُّبُهاتُ وأمواجُ الفِتَنِ، لأنَّه خفيفُ المَحمَلِ خالٍ مِن اليقين، فإذا خرَجَ مِن الحقِّ إلى غيرِه، لم يَرجِعْ إليه غالبًا؛ لأنَّه يظُنُّ أنَّ رجوعَهُ إليه رجوعٌ إلى ما عاشَهُ مِن قبلُ مِن شكٍّ وتردُّدٍ وضعفٍ، ويُفسِّرُ الإيمانَ على ما عاشَهُ مِن قبلُ هو، لا على الإسلامِ في حقيقتِه.