للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على أنَّ حُكْمَ الحاكمِ وقضاءَ القاضِي لا يغيِّرُ في الحقِّ الباطِنِ شيئًا؛ إذا عَلِمَ آخِذُ المالِ أنه يأخُذُهُ ظُلْمًا، فقضاءُ القاضِي يَفصِلُ في النزاعِ الظاهرِ ويدفعُ الخصوماتِ، ولكنَّه لا يغيِّرُ قضاؤُهُ في الأموالِ مِن الحقِّ الباطنِ شيئًا بإجماعِ العلماءِ؛ فالقاضِي مجتهِدٌ مأجورٌ، وآخِذُ المالِ ظالمٌ مأزورٌ.

وقولُه تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ أيْ: وأنتم تعلَمونَ الحقَّ فتكتمونَهُ عن أهلِه، وتستحِلُّونَ أخذَهُ بالقضاءِ والحُكْمِ؛ لِعَدَمِ بيِّنةِ أهلِهِ عليه؛ وفي "الصحيحَيْنِ"، عن أُمِّ سَلَمَةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا) (١).

حكمُ القاضي بخلافِ الحقِّ في الحقوقِ:

وعلى هذا يتَّفِقُ العلماءُ أنَّ القاضِيَ إذا قَضَى في الأموالِ والدماءِ على خلافِ الحقِّ الباطنِ أنَّ قضاءَهُ لا يغيِّرُ من الحقوقِ الباطنةِ شيئًا؛ وإنَّما يَفصِلُ النزاعَ والخصومةَ الظاهرةَ فحَسْبُ، واختلَفُوا في النكاحِ على قولَيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّ قضاءَهُ في النكاحِ كقضائِه في الأموالِ؛ لا يغيِّرُ خفاءُ الحقِّ عليه في الظاهرِ مِن الحقِّ الباطنِ؛ وبهذا قال أكثرُ العلماءِ.

الثاني: أن قضاءَهُ في النكاحِ يَفصِلُ في الحقِّ ظاهرًا وباطِنًا، ولو عَلِمَ الخَصْمانِ أو أحدُهما موضعَ الحقِّ الباطنِ، وأنَّه على خلافِ قضائِه، وبهذا قال أبو حَنِيفةَ؛ وذلك كمَن شَهِدَ على طلاقِهِ شاهدُ زُورٍ، فطلَّقَ


(١) أخرجه البخاري (٢٤٥٨) (٣/ ١٣١)، ومسلم (١٧١٣) (٣/ ١٣٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>